سجال حول «صلاحيات الرئيس»
من يقود الجامعة اللبنانية؟ هل هو رئيس الجامعة وحده أم معه مجلس الجامعة والمجالس الأكاديمية والتمثيلية (مجلس الكلية، الفرع، القسم) مجتمعة؟ أم مجلس الوزراء الذي يصادر صلاحيات الجامعة واستقلاليتها الأكاديمية والإدارية والمالية؟ أم الغيتوات الطائفية المتحكّمة بمفاصل المؤسسة الوطنية؟ أسئلة «أزلية» مطروحة منذ ما بعد الحرب الأهلية، لكنها تطل برأسها في كل مرة يحتدم السجال بين المكونات السياسية والأكاديمية داخل الجامعة وخارجها. الجواب ببساطة: الجامعة اللبنانية بلا قيادة، أو هذا ما يقوله أساتذة ونقابيون في مقاربة أزمة صرح تربوي سقطت فيه سلطة القانون لتحل مكانها «سلطات» أخرى
في 20 شباط الجاري، خرج رئيس الجامعة اللبنانية فؤاد أيوب، ليقول إنّه الرئيس الإداري والأكاديمي الأول في الجامعة، وإنه يملك، بمقتضى القانون، السلطة الرئاسية وسلطة إصدار التعليمات الملزمة لأفراد الهيئة التعليمية والإدارية في الجامعة. وفي مذكرة توجيهية إلى عمداء الوحدات ومديري الفروع والمراكز الجامعية، أشار أيوب إلى أن أساتذة الجامعة هم من الموظفين العامين ويخضعون لقانون الوظيفة العامة، ولا يجوز لهم الامتناع عن تطبيق تعليمات والتزام قرارات صادرة عن جهات لا صفة رسمية لها في الجامعة ولا تدخل ضمن تراتبية الهيئات المنوط بها إدارة الجامعة.
ودعا إلى التقيد بالتعاميم والمذكرات والقرارات تحت طائلة مساءلة كل من يمتنع عن تطبيق التدابير الإدارية المتخذة. وسمح للمخاطبين من عمداء ومديرين، الذين يرون أن التعليمات تخالف نصاً تشريعياً أو تنظيمياً، بالإشارة إلى ذلك خطياً في مراسلة موجهة إلى رئاسة الجامعة التي ستتجاوب مع أي ملاحظة وتعيد النظر في أي تدبير يتبين صحة النقد الموجه إليه.
المذكرة «ولّعت» بعض أساتذة الجامعة، ولا سيما النقابيون القدامى ومن عاصر هذه الجامعة لوقت طويل وانخرط في «نضالاتها». بالنسبة إلى المعترضين، تجاوزت المذكرة كل الأعراف الأكاديمية وخصوصية الأساتذة الجامعيين، إذ لا وجود في قانون الجامعة لمصطلح «السلطة الرئاسية» بل للصلاحيات، ثم إنّ الأستاذ الجامعي ليس موظفاً وليس ناظراً في مدرسة ابتدائية، والمطلوب، كما يقولون، أن يستخدم الرئيس صلاحياته في القانون فيحوّل من يرتكب المخالفات القانونية إلى مجلس تأديبي، لا أن يصدر مذكرات وتعاميم يراقب فيها النقطة والفاصلة (في إشارة إلى التعميم رقم 2 الذي يلزم الأساتذة بالتوقيع الشكلي على دفاتر الحضور)، بل مراقبة الفاعل والمفعول به.
عصام خليفة: استقالة الرئيس
ردّ الفعل الأول على مذكرة الرئيس جاء من النقابي المتقاعد عصام خليفة الذي أعدّ مطالعة باسم «الأساتذة المستقلون الديموقراطيون»، دعا فيها إلى وقف مفاعيل المذكرة وفتح معركة مواجهة شاملة تشارك فيها رابطة الأساتذة والمجالس الأكاديمية والأساتذة والطلاب ووزير التربية للمطالبة باستقالة أيوب لقصوره عن إدارة الجامعة، وللخلل الذي يعاني منه ملفه الأكاديمي وللممارسات المخالفة للقوانين الداخلية ومضمون الشرع الدولية.
خليفة وصف المذكرة بـ«العجيبة»، لكونها تناقض روحية المشترع حين شدّد في المادة 9 من قانون الجامعة (75/67) على القيادة الجماعية في إدارة الجامعة عبر المجالس الأكاديمية، وأن لا سلطة ملزمة للهيئة التعليمية سوى السلطة النابعة من القوانين والأنظمة المرعية الإجراء وقرارات المجالس.
وذكّر خليفة في اتصال مع «الأخبار» رئيس الجامعة بأنّ الأساتذة ليسوا موظفين، بدليل الاجتهاد الذي قدمه المرجع القانوني إدمون نعيم عام 1964، والذي يقر بعدم تطبيق المادة 15 من قانون الموظفين على أساتذة الجامعة. الاجتهاد وافق عليه مجلس الجامعة يومها وتبناه مجلس الخدمة المدنية، وقد جاء على خلفية شكوى رئيس الجامعة آنذاك، فؤاد افرام البستاني، بحق مدير معهد العلوم الاجتماعية قيصر نصر، بسبب كتابة مقال ونشره. المادة 15 من المرسوم الاشتراعي 112 (نظام الموظفين) الصادر في 12/6/1959، تحظر على الموظف في القطاع العام «الانضمام إلى المنظمات أو النقابات المهنيّة» (البند 2)، و«الإضراب عن العمل أو التحريض على الإضراب» (البند 3)، و«تنظيم العرائض الجماعية المتعلقة بالوظيفة أو الاشتراك في تنظيمها مهما كانت الأسباب والدوافع» (البند 9). خليفة يشير إلى أنّ الكلام على السلطة الأحادية لم يسبق له مثيل في تاريخ الجامعة التي «تعيش أسوأ أيامها». وأشار الى المادة 3 من الشرعة الدولية للأونيسكو وما ورد في الفقرة 6 بأنّ التدريس في التعليم العالي يعَدّ مهنة، وهو نوع من الخدمة العامة، وأن الحكومة اللبنانية وافقت على توصيات الأونيسكو وأصبح لها المفعول الذي يعلو على القانون، إذ ورد في المادة أنّ «المنظمات الممثلة لهيئات التدريس ينبغي أن تشترك مع سائر أصحاب الشأن والأطراف المعنية في تحديد سياسات التعليم العالي». وفيما أيد الإصلاح والانضباط في الجامعة، رأى أن المذكرة تنطوي على ترهيب وإخضاع وانتقام، وليس على تحسين الأداء الأكاديمي.
رابطة الأساتذة: مذكرة صدامية
لم تتأخر رابطة الأساتذة في تلبية نداء خليفة، فأعلنت على الفور إضراباً تحذيرياً «إصلاحياً» ليوم واحد، غداً، صوناً لكرامة الأستاذ الجامعي وحماية لخصوصيته.
لكن مِن أساتذة الجامعة مَن ليس مقتنعاً بأن هذه الأداة النقابية، بتركيبتها الحالية التي تضم كل مكونات السلطة، مستعدة فعلاً للمواجهة من أجل عودة الديموقراطية إلى الجامعة من خلال تفعيل عمل المجالس الأكاديمية، ووقف مخالفات العمداء والمديرين المسنودين من الأحزاب السياسية، وأن تحركها لن يتجاوز رفع العتب. هؤلاء يسألون: «هل الرابطة قادرة على منع الرئيس بالاستفراد بالقرار وهو في الأساس يفعل ذلك نتيجة ضغوط القوى السياسية المتنوعة لإمرار محاصصاتها؟».
إضراب تحذيري لرابطة
الأساتذة المتفرغين غداً ضد «تسلط» رئيس الجامعة
ينفي رئيس الهيئة التنفيذية للرابطة محمد صميلي أن تكون الرابطة قد انقسمت في ما بينها في شأن الرد على مذكرة الرئيس، لكن حصل تباين بين القوى السياسية على موقف الإضراب. صميلي يؤكد خصوصية الأستاذ الجامعي، ولا سيما أن قانون الانتخابات يسمح له وحده من دون الموظفين الآخرين بالترشح للانتخابات النيابية من غير الاستقالة من المنصب الأكاديمي بكل ما يعني ذلك من حرية التعاطي بكل الأمور الوطنية والسياسية.
لكن هل تستطيع الرابطة الذهاب إلى الإضراب من دون العودة إلى الجمعيات العمومية؟ يجيب: «طبعاً، الإضراب التحذيري ليوم أو يومين لا يحتاج إلى جمعيات عمومية، فقط الإضراب المفتوح يتطلب هذه الجمعيات لدى اعلانه أو العودة عنه».
المذكرة، كما يقول بيان الرابطة، خرجت عن أدبيات التخاطب والتواصل بين أهل الجامعة، ولا سيما حين تحدثت عن «السلطة الرئاسية»، وهو مصطلح غير مألوف في قوانين الجامعة وأنظمتها، فالمصطلح الدقيق، المعتمد هو «الصلاحيات»، سواء للرئيس أو للمجالس الأكاديمية على مختلف أنواعها وتراتبيتها.
أما في المضمون، فقد أتت المذكرة، بحسب الرابطة، في سياق يمعن في ضرب صدقية أستاذ الجامعة ورسالته التعليمية والبحثية والمجتمعية وحصر دوره في أنه مجرد مرؤوس غايته إرضاء رئيسه وتنفيذ أوامره. ورأت الرابطة أن المذكرة أتت تحريضية ضد الرابطة بالإشارة الى أنه ليس على الأساتذة «التزام قرارات تصدر عن جهات لا صفة رسمية لها في الجامعة». وقالت الرابطة إنها فتحت أخيراً حواراً إيجابياً مع رئيس الجامعة حول بعض التعاميم، التي أثارت جدلاً في صفوف أهل الجامعة. وفي الوقت الذي لا يزال فيه النقاش قائماً حول هذه التعاميم، فوجئت بصدور هذه المذكرة «الصدامية» الجديدة بما تضمنته من تهديدات.
رئاسة الجامعة: ضبط الانتظام العام
رئيس الجامعة فؤاد أيوب رفض في اتصال مع «الأخبار» التصريح بأي موقف أو الدخول في السجال الدائر في الجامعة. لكن مصادر الرئاسة ترى أنّ المصطلحات المستخدمة في المذكرة، ولا سيما «السلطة الرئاسية» هي من القانون الإداري العام وليس فقط من قوانين الجامعة. فرئيس الجامعة هو رئيس الهيئة التعليمية، والهدف من المذكرة جعل الجامعة إدارة واحدة منتظمة لها أصول وقواعد، فلا يجوز لعميد أو مدير أن يلتزما تعليمات شخصية سياسية أو حزبية وأن لا يستجيبا لتعليمات الرئيس الأكاديمي للجامعة. وتسأل المصادر: «هل يجوز مثلاً ألّا يكون هناك انتظام عام في الجامعة وألّا تكون هناك معايير موحدة بين الكليات تظهر الحقائق بطريقة شفافة، وترفع الغبن عن المؤسسة في ما لو تعرضت للمساءلة؟ ألا يجب أن يكون لدينا داتا موثقة عن كل الأعمال في الجامعة؟». هنا تقول المصادر إنّ ورقة ضبط الحضور في الجامعة مثلاً هي وثيقة تحمي الأستاذ الجامعي من التساؤلات. تستدرك: «مطلوب إعادة هيكلة الأمور، فالجامعة مؤسسة كبرى وحاجة وطنية ولا يمكن أن تستقطب الناس إلا بالتخطيط».
الأحزاب تتدخل
يشهد إضراب الأساتذة غداً خروقاً في أكثر من كلية، ولا سيما بعد تدخل فاضح للمكاتب التربوية الحزبية ومسارعتها إلى دعم الأساتذة الرافضين للإضراب، ولرئاسة الجامعة على حد سواء. فقد أصدرت الأحزاب بيانات أعطى بعضها الحق للرئيس في إصدار المذكرات التي يراها ملائمة لحسن سير العمل، كما فعل المكتب التربوي في التيار الوطني الحر. ودعت بيانات أخرى إلى الحوار الهادئ والنقاش وإلى لقاء موسع بين المكاتب التربوية لبحث مواضيع الخلاف وإيجاد الوسائل المناسبة لمعالجتها، كما فعل بيان اللقاء الديموقراطي لأساتذة الجامعة . ورأى بيان مشترك للمكاتب التربوية في حزب الله وحركة أمل، أن الدعوة إلى الإضراب تستلزم حداً من التوافق والميثاقية لإنجاحها! وهي خطوة لا تليق بالأستاذ الجامعي، لكونها تستبطن دعوته إلى عدم التزام النظام العام ولكونها تغطية لمخالفات حاصلة في الجامعة.