بحسب النقاد، بدأ المسرح اللبناني في العام 1848 مع رائد فن التمثيل، مارون النقاش، في مسرحيته «البخيل». لكن المسرح الدرامي الفعلي لم يبصر النور إلا بعد إنشاء المسرح القومي في ستينات القرن الماضي، فكانت مسارح مثل مسرح بيروت، مسرح شوشو ومسرح الأشرفية. بعدها، ظهر المسرح الحديث وكان من رواده روميو لحود والرحابنة ومن أشهر اسمائه: أندونيسيا، المارتينيز، البيكادلي، الإليزيه، مسرح المدينة والمسرح الكبير…. منذ أعوام والمسرح يمر بأزمة زاد من حدتها الإنهيار الإقتصادي ووباء كورونا. ولكن على رغم كل ذلك تأبى الستارة أن تقفل على تاريخ من النهضة المسرحية وثمة مسارح ومسرحيون يقاومون.
الحرب الأهلية في العام 1975 والاجتياح الاسرائيلي في العام 1982 قضيا على العديد من المسارح رغم محاولات الصمود للحفاظ على ميدان الفن الراقي هذا. بيد أن عدم مراعاة الدولة لصناعة المسرح جعل العمل المسرحي يقتصر في جلّه على مبادرات فردية ومساع شخصية لم تكن كافية لإعادة الحال إلى ما كان عليه سابقاً. مسارح عدة صمدت في تلك المرحلة، من بينها: المدينة، مونو، بابل، شاتو تريانو، الجميزة، لا سيتيه، وكازينو لبنان…
مسارح لم تقوَ على الصمود
الأزمتان الصحية والاقتصادية العاصفتان بالبلد منذ عامين ونيّف لم توفّرا المسارح من تداعياتهما. بعضها أغلق بشكل كامل فيما البعض الآخر ما زال يغامر من وقت إلى آخر عبر تقديم أعمال «خجولة» علّه يحقّق خرقاً ما. والحال أن عدداً كبيراً من أصل 33 مسرحاً أقفل أبوابه لتبقى قلة قليلة صامدة على غرار مسارح المدينة والجميزة ودوار الشمس وكازينو لبنان…، ناهيك ببعض مسارح الجامعات.
مسرح الجميزة، على سبيل المثال، هو المسرح الأول في لبنان الذي شيّد على يد مارون النقاش حيث قدم أولى مسرحياته. لكن رياح الإجرام التي عصفت ببيروت في الرابع من آب 2020 لم تتردّد في تدمير الجزء الأكبر منه وتوجيه ضربة لمواهب عدة وقفت على خشبته. آخر مسرحياته كانت «أم الكل» لجو قديح في شباط 2020 واستمرت حتى آذار من العام نفسه تحت شعار: «خريف العمر يقابله ربيع الثورة». ورغم حملات التبرع التي قام بها فنانو وأهالي الجميزة بهدف إعادة ترميم المسرح، إلا أنه ما زال مقفلاً حتى اليوم.
مسرح آخر لم يكن مصيره مختلفاً: شاتو تريانو. وهو من المسارح المعروفة حيث قدم العديد من المسرحيات التي طُبعت في الذاكرة وكان آخر نشاطاته «يوميات مسرحجي» لجورج خباز في كانون الأول 2019 ليُضطر بعدها إلى تأجيل كافة مشاريعه مع اشتداد الأزمة السياسية ليتوقف بذلك كلياً عن العمل. والمؤسف في الأمر أن المسرح عُرض للبيع منذ عام تقريباً مع العلم أنه صمد في أقسى أيام الحرب متحدياً القذائف والقنابل.
ماذا عن بعض ممن يجهدون لعدم «رمي المنشفة» لغاية الآن؟
المسرح نبض بيروت
نذهب إلى مسرح المدينة الذي تأسس في العام 1994 على يد المخرجة والممثلة اللبنانية، نضال الأشقر، وكان من مراميه تنمية الثقافة والمعرفة السياسية في البلد كما تعزيز الحوار وخلق مساحة من حرية التعبير في جميع القضايا التي تواجه المجتمعات اللبنانية والعربية. المسرح لم يتوقف رغم الظروف، إذ شهد الشهر الماضي عروضاً وأمسيات مختلفة. وفي حديث مع السيدة الأشقر، عدّدت نشاطات مهرجان «الجار للجار» من ضمن إطلاق مبادرة حسن الجوار مع الجامعة الأميركية، حيث تمّ إحياء ثماني حفلات باكورتها تمثلت بحفلة موسيقية مع فرقة زكي ناصيف، تلتها أمسية بلوز وجاز قدّمها كل من خالد العبدالله وابنه. أما غادة غانم، فقد لمعت في قطعة غنائية مميزة قدمتها على المسرح. كما شارك في المهرجان زياد سحاب وفرقة كورال من طرابلس. وتضيف الأشقر: «لم نتوقف عن العمل المسرحي منذ أن بدأت الأزمات المتلاحقة، عدا الأيام التي أجبرتنا فيها الدولة على الإغلاق بسبب جائحة كورونا». وتعزو السبب في ذلك إلى أهمية المسرح في حياة الإنسان. فكما أنه لا يستطيع أن يعيش بدون رغيف وماء وكهرباء وكامل احتياجاته الإنسانية الأساسية، كذلك لا بدّ له من أن يحصل على جرعات منتظمة من الثقافة والفنون لأنها من العناصر الأولية التي تغذي الروح. «بدون روح بيروت تموت، لذا لن نتوقف عن إعادة إحيائها».
وعن سؤال حول كيفية استمرار المسرح وتأمين كافة المصاريف التشغيلية في ظل الأزمة الاقتصادية، أشارت الأشقر إلى أن مسرح المدينة هو لجميع الناس كما للطلاب، وهو ليس مسرحاً تجارياً، لذا لم يتمّ اللجوء إلى رفع أسعار تذاكر الدخول. وبالنسبة إلى مصادر التمويل، شكت الأشقر من الغياب الكامل لدعم الدولة: «لو كنا نحظى بالدعم الرسمي، لسُعّرت البطاقة بعشرين ألف ليرة فقط». ولغرض تلبية المصاريف التشغيلية، ما زال الاعتماد أساساً على الكثير من المبادرات الفردية المحلية، وليس الخارجية، على عكس مسارح أخرى: «في السنتين الماضيتين، وبهدف تحدّي الضائقة والاستمرار في تقديم أفضل ما لدينا، كنت أطلب آخر كل شهر من أحد الممولين، تسديد أجور الممثلين والعاملين… وهكذا استمرينا، بمحبة الناس لنا».
اليوم يتحضر المسرح لعرض مسرحية جديدة بعنوان «أي ميديا» للكاتب والمخرج سليمان البسام بالاشتراك مع حلا عمران، يبدأ عرضها في الثامن والعشرين من الشهر الحالي وتتناول موضوع الهجرة. وهي تجربة جديدة في مشروع سليمان البسام البحثي المسرحي، حيث يتناول مسألة التكثيف على صعيد اللغة والاقتصاد بالأدوات المسرحية التي تؤدي بدورها إلى تكثيف البعد الشاعري في مكونات العرض المسرحي. ويصوّر النص «ميديا» كمهاجرة عربية مثقفة مسيّسة تجد نفسها في خلاف عميق مع العالم من حولها، الأمر الذي يدفعها إلى تصعيد وتيرة العنف بشكل لاعقلاني داخل فضائها العائلي.
من جهة ثانية، أعربت الأشقر بغصة عن أسفها لإغلاق العدد الأكبر من المسارح، في حين أن ما بقي منها أصبح دوره خجولاً جداً. لا شك أن المسرح اليومي يمدّ بيروت بنبض هي في أمس الحاجة إليه، فمن أين تُستوحى الأفكار؟ تقول الأشقر: «الوحي نأخذه من وجع بلادنا وألم شعبنا. أعتمد دوماً، وفي كل المسرحيات التي أقوم بإخراجها، على معالجة مواضيع إنسانية كالهجرة، والمرأة، وغلاء المعيشة وما إلى ذلك». الأشقر عقدت العزم على البقاء في لبنان رغم مسيرة فنية مكللة بالنجاحات. «نضالي هو ما أبقاني»، بحسب قولها. «أحب لبنان وكرّست حياتي للنهوض به. ناديت بحقوق المرأة ووقفت مع الناس ضد الظلم والقهر. اليوم لبنان يحتاجنا أكثر من أي وقت مضى. فما لم يتصوره أحد هو أن ينهار البلد إنسانياً وأخلاقياً. نحن من الناس وسنبقى لهم».
المسرح والعلاج بالضحك
ننتقل إلى مسرح مونو الذي يرتكز على إدامة التبادل الثقافي بين البلدان. وكباقي المسارح، تأثر بالأوضاع الراهنة التي أدت إلى توقف العمل فيه لفترة طويلة، مقتصراً أحياناً على مسرحيات قليلة مثل مسرحية «صبحية» التي عرضت بين شباط وآذار 2020، ومسرحية «يوم لم ينته» من إخراج علاء ميناوي بالتعاون مع فلاديمير كورمليان وأحمد عامر، ضمن مشروع فني افتتح في تشرين الأول 2021. المسرح يقع في الأشرفية التي طالها تدمير انفجار المرفأ في الصميم. لذا تناولت المسرحية نتائج الانفجار- الكارثة حيث كان كل عرض يختلف جذرياً عن سابقه عبر تقديم روايات مختلفة مستندة إلى قصص واقعية مروية على لسان أفراد وعائلات تضرروا مباشرة من الحادث المأسوي.
يعاود المسرح نشاطه اعتبارا من اليوم مع الفنان سامي خيّاط في مسرحية «ولو» التي يقدمها من الخميس إلى الأحد لثلاثة أسابيع فقط، مع إمكانية التمديد بحسب الإقبال. في هذا السياق، كان لنا حديث مع خياط، مخرج المسرحية وكاتبها والممثل الوحيد فيها.
خياط عوّد جمهوره على اقتناص الفرص المناسبة لإعادة إطلاق أعماله المسرحية. واليوم مع بدء الحديث عن احتمال تراجع جائحة كورونا، كان له «الجرأة الكافية» لتقديم عرض مسرحي جديد بعد غياب طويل عن المسرح. يخبرنا أن الاجراءات الصحية متخذة على أعلى مستوى لناحية تحقيق التباعد ووضع الكمامات كما الالتزام بنصف سعة الصالة مع تعقيم دائم مراعاة لشروط السلامة العامة. أما عن المضمون وكما يدل اسم المسرحية، فكلمة «ولو» تحمل أحياناً معنى التعجب – وهو تعجب من كل ما يحصل في البلد، من الناحية السياسية والوضع الاقتصادي إلى تصرفات الناس اليومية… في حين أن الكلمة نفسها تحمل أحياناً معنى المبالغة: «تخنتوها بالأسعار وبالإهمال وبكل الحالة يلي وصلنالها». فأغلبية المشاهد اجتماعية ومستوحاة من تصرفات المواطن اللبناني اليومية إن على الطرقات، أو في محطات الوقود، أو حتى المجالس الخاصة. كما أن مدة العرض لن تتخطى الساعة والنصف تفادياً للاحتكاك الطويل بين الحاضرين.
خياط اختار أن تُعرض المسرحية على طريقة «ONE MAN SHOW»، إذ يعتبر أن العرض منفرداً يشعره بالراحة أكثر فيكون ممسكاً بزمام العمل من البداية حتى النهاية. كما أنه فضّل، نظراً للظروف، ألا يسلك طريقاً تتطلب إنتاجاً ضخماً، من هنا جاء حصر الأفكار والضحك في شخص واحد ومكان وزمان محددين. ويردف أن من حسنات العرض الفردي تقليص النفقات: «لا أجور ممثلين، ولا مصاريف ديكور وإضاءة وملابس، كما لا مؤثرات صوتية وتسجيلات في الاستوديو».
وعن السباحة عكس التيار في ظل الوضع القائم، يجيب: «لو كانت للحرب قدرة على إيقافي، لما سبق وقدمت 62 مسرحية على مرّ 62 عاماً. الأزمة اليوم من شقّين: صحية وقد أخذنا كامل الاحتياطات، واقتصادية إذ قلّصنا الأسعار بأكبر قدر ممكن ووحدناها بين جميع الفئات العمرية».
المبادرات دائماً فردية في ظل غياب شبه كامل لنقابة الفنانين المحترفين، لكنها تبقى ضرورية لإخراج الشعب من الإطار الذي كبلهم في السنوات الثلاث المنصرمة، بحسب خياط. فالمسرح الفكاهي ضرورة مثل المأكل والمشرب، لأن الضحك عامل مساعد على التعافي النفسي والجسدي. وختم حديثه مشيراً إلى دراسات أثبتت أن العلاج بالضحك يعطي نتائج قد تكون أفضل بنسبة 60 إلى 70% من العلاج التقليدي بالأدوية.