عاش الشعب اللبناني خلال السنوات الماضية على صخب أصوات مسؤوليّ «حزب الله» الذين لم يُقصّروا يوماً بالاعلان عن تفوّقهم العسكري وعن قدراتهم التدميرية الهائلة، بفضل كَرَمِ النظام الثوري الإيراني، وبهدف ردع إسرائيل وتكبيدها الخسائر القاتلة، بحال تجرّأت، فأقدمت على ضرب مواقعه وعلى شنّ حربٍ على الأراضي اللبنانية، وردّدت هذه الأصوات العالية على مدى سنواتٍ طوال، وبكل ثقةٍ، بأنّ قوّاتها العسكرية على استعدادٍ لإزالة الكيان الإسرائيلي، حتى بات البعض يعدّ الأيام المتبقّية لوجود دولة إسرائيل، وكأنّها منّة من محور المُمانعة الجبّار. ولكن مع اللحظة التي بدأت إسرائيل ضرباتها التدميرية على مواقعه وبيوت ومركبات مسؤوليه، ونتيجةً لذلك، مع تتالي الأوراق الدولية والمبادرات التهدويّة الآتية من لجانٍ وموفدين، والباحثة بتنفيذ القرار الأممي 1701، انحدر المحور من ضجيجه الرّدعي على الحدود الجنوبية للبنان، إلى التفاوض على المقايضات، وإلى التلاعب على بنود القرارات الأممية، وإلى التشويش على الأبراج الأمنية للجيش اللبناني والمنتشرة على الحدود الشمالية والشرقية، المُشيّدة أساساً لمراقبة التهريب والنشاطات الإرهابية وغير القانونية. انكفأ الحزب «القوي» فجأةً من حالة الردع الخارجي ضدّ العدو إلى حالة الإعتراض الداخلي على ممارسة الجيش اللبناني لدوره السيادي.
تتالت أصوات قياديّي محور المُمانعة في المراحل السابقة لحرب غزّة مُهدِّدة، وواضعةً البلاد في ثلّاجة الإنتظار القاتل، تحضيراً لممارسة الردع عند اندلاع الحرب، وحجزت الوطن والشعب في سجن المحور، تهيّباً للوقت المُناسب من أجل تهذيب الجيش الإسرائيلي، فدفع الاقتصاد اللبناني الثمن الغالي، وتهاوت علاقات لبنان الرسمية مع المجتمع الدولي والاقليمي المُفيد للبنان، وخضعت مؤسسات لبنان وميزانيته وحدوده للقضيّة المركزية لهذا المحور «الردع الإستراتيجي» وحُشرت عبارة «جيش، شعب، مقاومة» في البيانات الحكومية كافّة، وتمّ اتهام الفرقاء المعارضين لها، بالخيانة والتعامل مع العدو، وبإضعاف لبنان، وتمّ وقف العمل بكافة الإجراءات الإصلاحية في الإدارات الرسمية وفي السياسة الوطنية، لعدم التشويش على الترتيبات الضرورية لاتقان الردع، ومُنع الفرقاء الفائزون بالأكثريات النيابية من ممارسة الحكم، وشُنّت حروب تأديب وتهذيب ضدّ كل من تجرّأ للمطالبة بالسيادة الوطنية، وتمّ اغتيال الشخصيات السيادية، وغزو شوارع بيروت والجبل لحماية «سلاح الردع». كلّ ذلك حدث على مدى سنوات، وصلت فيها البلاد إلى الانهيارات المتتالية في كلّ القطاعات الوطنية. وأتى وقت الحساب، مع اندلاع حرب غزّة، ليُصبح اهتمام محور الردع، بكيفية تطبيق القرار الأممي 1701 بشكل منقوص، تخفيفاً لآثاره على التهريب والفلتان الأمني الحدودي المفتوح بين كيانات المحور، لنتأكد بأنّ منظّماته لم تُنشأ فعلياً لردع إسرائيل، بل لحكم الشعوب ولتحويل أوطانهم أوراقاً تفاوضية بيد قائد المحور القاطن في طهران. إنّها أبراج لقمع الداخل وليس لردع الخارج.
تذكّر النظام السوري المتهالك الأبراج اللبنانية بعد 12 سنة من إقامتها، وحاول تعليل خشيته على التهريب، بحرصه على السيادة السورية، محاولاً كعادته استغباء الدولة اللبنانية، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع بأنّ لا وجود حالياً لمتر أرضٍ في سوريا، تُحترم فيه سيادة الشعب السوري، وأن كل زوايا الأراضي السورية تقع تحت مراقبة جميع القوى الموجودة على أرضها، وهي كثيرة. إنّ التفلّت في الداخل السوري الناتج عن التدخّلات العسكرية للحرس الثوري الإيراني، الموجود لتأمين وحماية طرق الإمداد بين طهران وجنوب لبنان، كان كفيلاً بفتح السماء والأرض لمراقباتٍ من شتّى الأنواع، وكلّها متفوّقة تقنياً على المراقبة من الأبراج الحدودية اللبنانية. يخاف محور المُمانعة من حسن الرقابة الحدودية التي أثبت الجيش اللبناني بأنّه قادر على القيام بها بأفضل الأداء، لولا وقوف القرار السياسي للسلطة اللبنانية عائقاً أمامه، وما اعتراض المحور على الأبراج الآن إلا اعتراضاً على مشروع لبنان السيادي المتحرّر من براثنه.
الأبراج اللبنانية عقدة محور القمع والتخلّف، بأنظمته المتعدِّدة، التي حلّت على لبنان منذ سبعينات القرن الماضي، ولكنها ليست ابنية ولا كاميرات ولا تقنيات مراقبة، بل ثقافة مميّزة، وحرّيات ثابتة، وانفتاح وصمود، ومهما حاول محور الردع الزائف تحويل عدائيته نحو هذه الأبراج، فلن ينجح في فكفكتها.
(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»