IMLebanon

الجامعة اللبنانية بحراسة شياطين المذاهب

إنه العار.

في 5 شباط 2015، حدث ما يلي: وجهت «لجنة الأساتذة السُنَّة المستقلين (مستقلين عمن؟) في الجامعة اللبنانية» كتاباً مفتوحاً إلى رئيس مجلس الوزراء (السني) تمام سلام وإلى مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، استنكرت فيه التهاون في حقوق أبناء الطائفة السنيَّة في الجامعة اللبنانية وتغييبهم من المواقع والمراكز الأكاديمية والإدارية فيها، والتعامل مع أبناء الطائفة في تعيينات المديرين في فروع الجامعة، وكأنهم من أهل الذمَّة (أي ضمناً، يجوز الإجحاف بحق الذمّي) فتحفظ حقوق بقية الطوائف والأحزاب ولا يمس بمواقعها.

«الكتاب المفتوح» هذا، يمكن أن يكون نموذجاً يحتذى، لكل «لجنة طائفية أو مذهبية» في الجامعة نشأت أو لم تنشأ بعد، تشعر بأن حقوق ملِّتها غير مصانة. وليس على أصحاب «الكتاب المفتوح» العام، غير تعديل اسم الطائفة، فيوضع في المتن، الشيعي أو الماروني أو الدرزي أو الكاثوليكي أو الأرثوذكسي، عوض السني، على أن يوجه الكتاب إلى المرجعيات السياسية، كل حسب طائفته ومذهبه، وإلى المرجعيات المذهبية، كل حسب ملّته.

إنه العار العلني، إنه الارتكاب بلا خجل.

سبق أن أثيرت «طائفة» الحوض الرابع. تحركت المرجعيات الدينية والسياسية لوقف العمل في ردم الحوض. قيل، هذا اعتداء على «حصة» المسيحيين في المرفأ. تحرك سائقو الشاحنات. أرسلوا الكتب المفتوحة إلى المرجعيات. تحركت البطريركية المارونية. سمّت مطراناً مسؤولاً عن ملف «الحوض الرابع». عُقدت ندوات وجلسات. سُيِّرت رسائل وتوصيات. قيل للإدارة في المرفأ: خذي خططك وأقنعي صاحب الغبطة، صاحب الغبطة أحال اللجنة على «لجنته». قيل همساً إن الشيعة أخذوا حصتهم من المرفأ، الدروز سيأخذونها مع حبة مسك ثمينة، وقيل إن السنة هم وراء المشروع. وكل ذلك قد يكون حقيقياً جداً، إذاً لا حقيقة في لبنان تعلو الحقائق الطائفية. وقد يكون وهماً، والوهم في لبنان معادل للوقائع، ما دام هناك من يتبناه.

إنه الخزي العاري بلا خجل.

وسبق أن أثيرت «طائفة» الكازينو. خرج المصروفون إلى الملأ، وحثوا أهالي كسروان الأقحاح ليقفوا إلى جانبهم مع الصلوات الضرورية للتحريض، على أن يصحبوا مواقفهم بقرع الأجراس. وتحركت الوساطات لبرطلة الموظفين المصروفين بتعويضات، تنتمي إلى أرقام الميسر، وليس إلى المواد القانونية.

كل هذا معروف. الطائفية أقوى من الدستور والقوانين والأخلاق والقيم والحقوق. ولبنان، صاحب فلسفة في هذا المضمار، فلسفة الديموقراطية التوافقية، (كذبة بلقاء) وصاحب العيش المشترك و «النصب المشترك»..

لا جديد في ما تُقدم عليه الطبقة السياسية. تغتذي هذه الطبقة برمّتها، ومن دون استثناء أحد المذاهب أو الطوائف، من النصب الطائفي والكمائن الطائفية والصفقات الطائفية. شياطين الطوائف سيَّبت الكهرباء، وتمنع حالياً المباشرة بملف التنقيب عن النفط. إننا محكومون بشياطين الطوائف وعصابات المال الحرام.

كل هذا معروف. لا جديد إلا في «الكتاب المفتوح» الصادر عن جهة أكاديمية في الجامعة اللبنانية، «تغار» على مصالح السنة، وتدافع عن «حقوقها» و «حضورها».. هذا جديد ومريع.

الجامعة كما هو مفترض، هي منصة النخبة. الجامعة، في الأساس، وطنية ولبنانية. فهي ليست «يسوعية» ولا «بروتستانطية» ولا «إسلامية» ولا «أميركية» ولا «فرنسية»، ولا أي «كوكتيل» مزغول ثقافياً وتغريبياً وسلفياً. هذه الجامعة اللبنانية، انتهت لبنانيتها عندما تم القبض عليها من قبل السياسيين. لقد وجدوا فيها نخبة طيعة ذليلة، لا تأتمر بما يقوله الكتاب وما تنص عليه شروط المعرفة وقوانين العلم وأخلاق التربية. نخبة (ليست قليلة العدد) كانت ترفع شعار «ارفعوا أيديكم عن الجامعة»، فيما كانت هذه النخبة بالذات، تخطب ود الزعيم والمتنفذ والميليشياوي، طمعاً بترقية أو منصب. شعار ارفعوا أيديكم عن الجامعة، كان شعاراً كاذباً. الحقيقة، أن هذه النخبة، في أكثريتها، باعت مفاتيح الكليات والإدارات والمعاهد للسياسيين. ولولا هذه النخبة الرثة، لما دخلت الطائفية إلى كل زاوية من زوايا الجامعة، حتى بات «الكتاب المفتوح» أعلاه، نموذجاً يحتذى، وبلا خجل.

بإمكان أي مجتمع فاسد أن تحيا فيه وتزدهر شعلة النقاء المعرفي والحصانة الفكرية وحرية الرأي والتعبير واستقلالية القرار. الجامعة ليست إدارة حكومة، هي إدارة محكومة بمعايير المعرفة بكامل نقائها، ومعايير العلم بكامل صرامتها، ومعايير الوطن بكامل تحصنها ضد الطائفية.

لبنان بحاجة، وسط هذا السقوط المريع بسبب الطائفية، إلى جامعة وطنية، فلا تكون زرائب ومغاور لثعالب المذاهب والطوائف، بأدواتها السياسية المقيتة وأساليب مرجعياتها الروحية الملتوية. متى كان العقل يأتمر بغير حقائقه؟ ومتى يأتمر العلم بغير براهينه وقوانينه؟ أين لنا بغاليليو غاليلي؟ أين؟ لا صوت جامعياً خرج على الملأ، يعلن أن المطلوب هو الجامعة العاصية، لا الجامعة التابعة، أكان بجهازها التعليمي، أم بجهازها الإداري، أم بجماهير طلابها الممهورين بختم الطائفية ووشم المذهبية، منذ الحليب الذي رضعوه من صدور التاريخ المذهبي العفن.

العار ليس في السياسيين. هؤلاء اعتادوا على الفحش السياسي. لا يردعهم شعب، بل تشجعهم شرائح واسعة منه. كل العار، أن تتحول النخب الجامعية، المعوَّل عليها إنتاج عقول حرة، إلى جماعات تسكر بالتبعية، وكل همها أن تكون محظيَّة عند أصنام السياسة التي يعبدونها، ويعفّرون جباههم إزاءها. الجامعة ليست لتخريج قطعان، بل لتحصين أحرار.

أن تتنازل الجامعة اللبنانية عن واجبات الضمير المهني والعلمي، وأن تتخلى عن استقلاليتها، فهذا يعني أن لبنان قد تعرض لأبشع غزو من داخله، عبر ميليشيات المعرفة المربوطة بمعاقلها ومعالفها.

إن سقوط النخبة في لبنان، يتبدى من خلال استقالتها من رسالتها الجامعية واستبدال الرسالة بالوظيفة، مع ما يقتضيه ذلك من ارتهان، بهدف تسلق المراتب بلا جدارة.

السيئ هو سيرة لبنان حتى الآن. «الكتاب المفتوح»، يبشر بالأسوأ. الكارثة، أن تصبح الثقافة مأمورة من الحثالة. وأن تصبح مواقع التفكير، شبيهة بمواقع التكفير. مثل هذه السيرة يعني أن حظوظ الأمل معدومة. عندها يصح قول الشاعر أنسي الحاج: «إن الشعب اللبناني وزعماءه هم أنجح زواج في التاريخ».

بانتظار «كتاب مفتوح»، وطني، تقدمي، علماني، يعيد إلى الجامعة أصالة الروح فيها، معرفة وعلماً وخلقاً ووطناً، يتحدى طاغوت السلطة والدين والأحزاب والمال، يظل هذا النص صالحاً في مواكبة السقوط الكبير والأخير.

ماذا يبقى لك بعد في هذا البلد. إنه لأمر مخجل أن تنتمي إليه، لأنه طردك منه بواسطة نخبه. لقد بلغت السفالة فيه، أن المقدس فيه، بات هو المدنّس، وأن المدنّس هو في مقام المقدّس.

بئس الانتماء في هذه الحالة.