IMLebanon

«حروب صغيرة» لاستكمال تفتيت لبنان!

 

رسم المخرج الراحل مارون بغدادي في فيلم «حروب صغيرة» عام 1982، صوراً من الواقع اللبناني آنذاك. في الخلفية كانت الحرب الأهلية وقد مضى على بدئها 7 سنوات، ومعها جيوش احتلال بعد أكثر من اجتياح، إلى اقتتال الميليشيات الطائفية وعالم قبضايات الزواريب، وما يرافق ذلك من جرائم خطف لفرض خوّات إلى اتساع تهريب المخدرات… إلخ، ومن الطبيعي أن يكون السائد الإحساس بالقلق وعدم اليقين.

تدهورت الأوضاع بشدة ومعها كانت تتحطم الحياة، لكن مع الاقتراب من يوميات اللبنانيين لفتت «حروب صغيرة» إلى الإصرار لدى الناس على الاستمرار في حياتهم بلا خوف. كانت هناك قناعة بأن هذه الصفحة لن تدوم فحضرت السخرية مرفقة بالأمل، حتى إن المبدع زياد رحباني الذي ساءه استخدام موسيقى «يا مهيرة العلالي» خلفية لدعاية ميليشياوية رد متوعداً: بكرا بيصير في دولة ومنتحاسب!

بعد عام 1990 دخل لبنان مرحلة «السلم الأهلي»، فاتخذت هذه الحروب أشكالاً جديدة. تم الانقلاب على الدستور وساد نظام محاصصة طائفية جرى إبانه حصر المرجعية بين أيدي «المندوب السامي» المقيم في عنجر! ما سهّل الاحتلال الذي بدا من ناحية كمكافأة خارجية للرئيس السوري مقابل مشاركة نظامه في حرب الخليج الأولى، ومن الأخرى التحاقاً من منظومة الحكم التي ترسخت مواقعها بسبب هذا الاحتلال.

تداعيات الانتهاك الفظ للسيادة، والاستئثار بحصة وازنة من واردات البلد وتزوير التمثيل النيابي، أطلق دوامة الديون ما انعكس موجات يأس قمعها النظام البوليسي، فكان التعبير هجرات شابة متلاحقة «وان واي تيكت»! لكن جريمة قتل الرئيس الحريري فجرت «انتفاضة الاستقلال» التي استفادت من معطى دولي كالقرار 1559، فنجحت في إخراج جيش النظام السوري. غُدرت «الانتفاضة» فاستمر الدستور معلقاً وتعمقت المحاصصة، وحُكم البلد بالبدع التي فرضتها القوة القاهرة لميليشيا «حزب الله»! فاتسعت «الحروب» التي مكنت الدويلة من التغول، وما كان ذلك ليكون لو أن آخرين تمسكوا أقله بالدستور وسلاح الموقف!

اكتشاف شبكة اتصالات «حزب الله» التي أدت إلى احتلال بيروت عام 2008 أوصلت إلى بدعة «الثلث المعطل»، ولاحقاً الإمساك بالمطار والمرفأ. ومع استباحة الحدود ومعابر التهريب خرج البقاع عن سيطرة الشرعية وتعزز التفتيت مع ترسخ الاقتصاد الموازي. واردات الجمارك في عام 2018 لم تتجاوز أرقام عام 2010 رغم ارتفاعها من 14 مليار دولار إلى 23 ملياراً ارتباطاً بازدياد السكان واللاجئين السوريين: شعب كامل أضيف إلى سائر المقيمين! غير أن التسوية الرئاسية في عام 2016 وانتخاب المرشح الوحيد لـ«حزب الله» رئيساً، شكلت المنعطف الأكبر في الحروب على اللبنانيين ما عمّق الزبائنية وسرّع الانهيار الشامل!

7 أشخاص، و8 على الأكثر، أكثر شبهاً برؤساء عائلات مافياوية، تحكموا بالبلد، خرج البعض في عام 2005 فدخل بدلاء لهم. دليلهم نظام المحاصصة، تجاهلوا الدستور واستتبعوا القضاء بحجزهم استقلاليته، فبات من العاديات أن يعيش لبنان نحو 6 سنوات خلال آخر 15 سنة في شغور دستوري وحكومات تصريف أعمال وبرلمان مقفل، والرقم القياسي سجله هذا العهد، فبعد 1556 يوماً على بدايته هناك 521 يوماً بدون حكومة، في بلد حصر فيه الدستور السلطة في يد مجلس الوزراء! الحصيلة: توالي انهيار المؤسسات التي شكلت تاج المرحلة الشهابية من ديوان محاسبة وهيئات رقابة ومجلس خدمة مدنية!

إمساك «حزب الله» بمفاصل القرار بعد التسوية الرئاسية، عزل لبنان عندما زُجّ رغماً عنه في حروب «إيران الكبرى» على المنطقة، هي بالمناسبة أكبر حروب التفتيت. تراجع الحضور الخارجي وتقلصت تحويلات المغتربين وضربت المنافذ، فبات المطار تحت الشبهة وكشف تفجير المرفأ المستور، وترافق كل ذلك مع سقوط لبنان الائتماني 4 درجات خلال 3 سنوات ليصبح التصنيف على المستوى «c» وهو الأدنى! كانوا يعلمون لأنهم شركاء في الارتكابات، وعندما جفّ ضرع الدولة انقضوا على جني أعمار الناس، بالتزامن مع تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج ولم يردعهم رادع… والأنكى أنه بعد ثبوت نهب الأموال وإعلان القضاء السويسري عن شبهة في توريط مصرف لبنان في غسل أموال واختلاسها، والحجز الاحتياطي على حسابات الحاكم رياض سلامة (400 مليون دولار)، يستمر الحاكم في موقعه كأن شيئاً لم يكن، والفريق السلطوي في مكانه، ينتظرون المساعدات المالية من الخارج لانتشال لبنان واستعادة الثقة!

تلاشت السلطة فكانت ثورة 17 تشرين الرد على الاستباحة وعلى اختطاف الدولة بالفساد والسلاح، ولئن لم تنجح الثورة بعد في بلورة البديل، استمرت المنظومة في الحكم رغم إفلاسها متكئة على فائض قوة «الدويلة» المتعامية عن اجتياح الفقر الخريطة اللبنانية، فكان الرد على الثورة المزيد من الدفع إلى التفتيت. بعد التعديات المباشرة من ميليشيا وأجهزة بدأ الغزو المنظم لتشويه سلمية الثورة. قبل أيام قالت جهات أمنية إثر فشل إحراق طرابلس إن مخربين أطلقوا 600 مولوتوف على السراي!! فمن هم هؤلاء؟ ومن أين لهم المولوتوف؟ وفي مظاهرات ضمت مئات الآلاف لم تسجل ضربة كف؟! يعلم الجميع أن الغزوات نُظمت لافتعال الاشتباكات ولاستهداف شعار الثورة: كلن يعني كلن… وحقق الأمر تراجعاً في حجم المشاركة، وما حصل في بيروت انتقل إلى طرابلس، وظهرت الفرق الجوالة يومياً في التوقيت نفسه تفتعل الصدام وتعود في اليوم التالي!! منحى فضحه البطريرك الراعي بقوله: «ما كان شعب لبنان يوماً يتيماً مثلما هو اليوم»!

أبشع حروبهم كان التفجير الهيولي يوم 4 أغسطس (آب) الماضي. حتى اليوم لم يستوعب العقل ماذا جرى، ومشاعر الحزن تنهش الناس كلما تذكروا أن «بشراً» كانوا يعلمون ولديهم كل الوقت لإنقاذ الأرواح ولم يفعلوا… وتتفاقم المعاناة لأن التحقيقات تبدو مخيبة مع الاستنفار السلطوي لتقييد التحقيق ومنع المساءلة! القضاة يعلمون أن العدالة المتأخرة ظلم كبير، ويعلن وزير سابق: «لن أسمي المسؤولين عن تفجير المرفأ.. بيقتلوني»! فهل هاجس التفتيت ترسيخ التيئيس لجعل لبنان جغرافياً بدون ناس يسهل إخضاعه؟

17 تشرين أعادت الأمل وفرضت وما زالت الحجْر على السياسيين الذين يتنقلون خفية، وطرابلس أعادت التأكيد على حقيقة رسوخ الثورة التي تجد نفسها في طور جديد، ما يحتم تحول الاحتجاج إلى حركة لا مركزية. لا وقت للترف ولا وقت للإقصاء… المصير الوطني على المحك ولا بديل عن أكثر من طرابلس لوقف مسار تغييب الدولة، واستعادة الأمل، من خلال بلورة الحيثيات والكفاءات والحالات السياسية لإطلاق جبهة سياسية معارضة لاستعادة الدولة بما هي البديل عن نظام المحاصصة والمنظومة التي فقدت أهليتها!