في مقدمة الدراسة القيّمة التي أعدها المؤرخ الالماني تيودور هانف عن الحرب اللبنانية والتي تعيد “النهار” الاضاءة عليها لفرط تكرار الاحداث والتشابه بين الماضي والحاضر، تحليل عميق ونفسي لما جرى من أحداث عنف، وفحواه أنه لا يمكن ادراك هذا النزاع الا من خلال خلفيات عامل الخوف الذي يشعر به كل طرف في لبنان. ويصف ما حصل بأنه كان نزاعاً حول وجود مختلف الطوائف اللبنانية ولا يزال. ويستخلص أن “لعبة الامم هي أيضاً لعبة الطوائف اللبنانية التي يمكن ان تكون مميتة، اذ يتخطى فيها عدد المغلوبين عدد المنتصرين”.
في رأي هانف أن المسيحيين والمسلمين تقاسموا الكرسي اللبناني بنوع من التفاهم والانسجام قبل العام 1975، لكنهم منذ 13 نيسان حاربوا بضراوة وتنازعوا كل شبر من أرض لبنان خوفاً من أن يُبْعد احدهم نهائياً عن مكانه، ويهجر من أرضه، أو يعيش في مخيمات اللاجئين او يهاجر او يصفّى جسدياً، وكل الخوف من أن يصبح احدهم الخاسر النهائي. الخوف بالنسبة الى هانف هو محرك السياسة الاسرائيلية، ويدير سياسة الاقلية العلوية الحاكمة في سوريا، ولدى المسيحيين اللبنانيين من خسارة ذاتهم في لبنان الحديث وتحولهم الى أهل ذمة، وخسارة دورهم السياسي وأن يصبحوا مثل الاقليات في الدول العربية. ولا تفوته الاشارة الى خوف المسلمين السنة من فقدانهم السلطة وتحولهم الى اقلية بين الاقليات اللبنانية، وكذلك خوف الشيعة من اسرائيل والفلسطينيين، وخوف الدروز من عددهم الضئيل وضعف امكاناتهم(…).
لم يتغير الكثير مذ أصدر هانف دراسته القيّمة عن الحرب في لبنان العام 1993، خصوصاً عاملي الخوف والموت اللذين غمرا الشرق الاوسط برمته ولم يعد حكراً على لبنان فقط حيث كل الاكثريات والاقليات خائفة. السنة خائفون من الامبراطورية الفارسية بوجهها الشيعي، والشيعة خائفون من عودة الخلافة الاسلامية السنية باوجهها المختلفة. أما الاقليات الكردية والعلوية والمسيحية والدرزية والايزيدية وغيرها فتذهب “فرق عملة” بين صهيل خيول الامبراطوريات وحوافرها.
كتب هانف في دراسته التي تصلح للمقارنة مع الوضع الحالي ان “المفارقة في الحرب اللبنانية هي ان احداً من الاطراف المتحاربين لم يرد احراز نصر شامل في النزاع اللبناني الداخلي، بل اراد كل اطراف النزاع تحقيق انتصارات نسبية، وحتى الجيشين الاسرائيلي والسوري لم يتصرفا عكس الميليشيات اللبنانية(…)”.
الحسابات الخاطئة
وتحت عنوان “الرعب ظاهرة يومية” اورد الباحث أن كل اطراف النزاع الداخليين والخارجيين وقعوا عند بداية الحرب في لبنان في حسابات خاطئة. المنظمات الفلسطينية وحلفاؤها اعتقدوا ان المسيحيين هم شعب مدلل يهتمون بالرخاء وسيهربون منهم او يستسلمون لهم. كذلك اعتقد حزب الكتائب انه يكفي استدراج الجيش الى اشتباكات مع الفلسطينيين كي يستسلم هؤلاء لارادة الدولة. واعتقدت سوريا ان القصف المدفعي سيرغم القوى المسيحية على الاعتراف بالسيطرة السورية(…) لكن الخوف من التهميش والانحلال والتهجير زاد شعور التجمعات اللبنانية بالتهديد ودفعها للجوء الى العنف للدفاع عن هويتها المهددة وخسارة مكتسباتها. وهكذا انتشر العنف بكل أشكاله من القصف المدفعي الى القتل على الهوية والقنص والاغتيالات والتهجير، وكلها تندرج تحت عناوين الرعب والخوف في يوميات الحرب اللبنانية.
أرقام الموت
يستعين هانف في دراسته ببحث للمؤلفين خليل ابو رجيلي وبطرس لبكي “Bilan de treize ans de guerre au Liban” او “محصلة 13 سنة حرب في لبنان”، وفيها: أن عدد الضحايا ما بين 13 نيسان 1975 ونهاية تشرين الاول 1987 بلغ 62 الف قتيل و83 الف جريح، ومن بين الجرحى 9100 حالة اعاقة. وبلغت نسبة المدنيين بين الضحايا 75 في المئة وضحايا الميليشيات 15 في المئة والجيوش النظامية 10 في المئة. وتقدر الدراسة خسائر الميليشيات اللبنانية والفلسطينية بعشرة آلاف قتيل، سقط 25 في المئة منهم في “حرب المخيمات بين الشيعة والفلسطينيين، وربعهم الآخر في اشتباكات بين الميليشيات المتحالفة نفسها. وسقط 15 في المئة منهم على جبهات القتال الكلاسيكية.
عن ضحايا المجازر الجماعية بين 1975 و1986 تشير الدراسة الى ان ما يقارب 80 في المئة من ضحايا المجازر كانوا من سكان القرى المسيحية التي اعتبرت بحسب هانف “جزراً سكانية طارئة في مناطق كانت تسكنها اكثرية سكانية مسلمة او كانت مختلطة”. ويلفت الى ان المجازر لم تحصل بصورة عفوية بل كانت بهدف تهجير الاقليات من تلك المناطق. وبلغ عدد الضحايا 2972 مسيحياً مقابل 829 مسلماً.
الخلاصة
يعتبر هانف في خلاصة دراسته، التي نقلها عن الالمانية موريس صليبا، ان اللبنانيين من مختلف الطوائف على استعداد لمساعدة بعضهم البعض في حالات الشدة والضيق، ويقدم نماذج يصفها بـ”الرائعة” عن عيش اللبنانيين معاً وارادتهم القوية للعمل على وحدة بلادهم أكثر مما يمكن تصوره من عوامل الانهيار. وبرأيه أن اللبنانيين لا يشكلون مجتمعاً “هوبسياً” اي ان كل طائفة تشكل زمرة من الذئاب تقف بالمرصاد للطائفة الاخرى. كما لا توجد جماهير متعصبة ومتزمتة لتحول دون قيام توافق جديد، بل يوجد فريق متعطش الى السلطة وقصير النظر. والاصح، يقول، ان روح التوافق متأصلة بعمق في نفوس اللبنانيين كما كشفت له تحقيقاته، وأن “كارتل” الذئاب من الزعماء المرتزقة واسياد الحرب والمروّضين غير اللبنانيين يهوشون “ذئابهم” على بعضهم البعض.
1976 العام الأكثر دموية
تختلف أرقام الضحايا في دراسة لبكي – ابو رجيلي التي اوردها الباحث هانف، عن ارقام دراسة “جمعية النهضة اللبنانية” العام الفائت عن عدد ضحايا الحروب في لبنان 1975 – 2006، وفيها ان عدد ضحايا هذه الفترة من الحروب بلغ 48094، اضافة الى 101745 جريحا. وسجل العام 1976 اعلى نسبة من القتلى والجرحى، وتلاه العام 1982. في حين سجلت محافظة بيروت العدد الاكبر من الضحايا بنسبة 36,148 في المئة، تلاها الجنوب بنسبة 15,889 في المئة، ثم جبل لبنان بنسبة 11,243 في المئة.