Site icon IMLebanon

الحرب اللبنانيّة للعام 1975: لماذا هذا الاطمئنان إلى أنها لن تعود؟

بشيء من الخوف المتعاظم والمختلف عن الاعوام السابقة يستعيد اللبنانيون هذه السنة الذكرى الاربعين لاندلاع حربهم الاهلية وحروب الآخرين على اجسادهم وارضهم لا فرق.

ولهذا الجزع المتعالي، واستطرادا لهذا الهلع المضمر والمعبر عنه بأشكال عدة ما يبرره ويبعثه في آن، فالمحيط الممتد من بلاد الشام الى باب المندب صفيح ملتهب تتناسل على ارض دوله المترامية حروب ومآس اين منها حروب داحس والبسوس التي اتسمت بالوحشية ودامت عقودا. وعلى مرمى نظر منهم تنساب انهار من الدماء وترتفع سحب دخان الحرائق مما يعيد الى مخيلتهم صورا ومشاهد من ايام احترابهم الداخلي الذي توالى فصولا طوال اكثر من 15 عاما آكلاً من صحنهم اليومي ومن أعمار أجيال وأجيال.

والى هذا المشهد المرتج في الداخل بؤر توتر بين فينة واخرى تتبدى هنا اوهناك مقرونة بمناخات من التوتر والاحتقان تنخفض تارة وتعلو تارة اخرى كأنما هي بركان في طور الخمود الموقت ينتظر اقل هزة حتى تندلع حممه وتحرق ما حولها.

وعلى الحدود الشرقية للبلاد ارهاصات حرب صارت شبه يومية بين الارهاب الذي دخل طور الهجوم من جهة، وبين الجيش ومن يؤمن له الدعم والرفد من جهة اخرى، وكأنها حرب مؤجلة لبعض الوقت تنتظر صحوا او ذوبان ثلج واشارة خفية تأتي من جهة ما لتستحيل مواجهات حرب كاملة المواصفات وفق ما يحذر منها البعض.

ومع كل هذا الكم المتراكم من الهلع منذ تفجرت الحرب على طول الميدان السوري وعرضه، فإن ثمة من لايزال مقيما على لون من الوان الاطمئنان واليقين من ان الحرب الاهلية ستنذكر ولكنها لن تعاد او تستعاد بأي شكل، وانه ربما للمرة الاولى تندلع النار في الاقليم ويكون الوطن الصغير مغطى ومحاطاً بشبكة من الامان والاطمئنان.

وبمعنى آخر ربما شرب الاقليم كله من كأس الجنون والتهور وركوب المغامرة، الا لبنان الذي تنزّل عقل الرحمن الى رأسه برداً وسلاماً.

لذا لم يكن مستغربا هذا الاحتفاء الزائد عن المألوف وهذا التحذير المترامي الصادر خلال الايام الماضية من شرائح وقطاعات عريضة من اللبنانيين من عودة الحرب او استيلادها مجددا، او من استدراج قرص النار الى الفناء الداخلي لدارنا الذي بالكاد اعدنا ترميمه، فالتحذير والحذر واجبان، ولكن ثمة ما هو اكثر من اتعاظ واعتبار من ماض لم يمض بالكامل، فذيوله وآثاره ما برحت مقيمة بين جوانح وجوارح كثيرين ممن عايشوا تلك الحقبة السوداء اوممن لم يعانوا فواجعها التي تسللت الى كل بيت وسكنت كل روح.

لم يعد خافيا انه في الاشهر الاولى لاشتعال الساحة السورية تملكت البعض مخاوف جدية من انفتاح الداخل اللبناني قسرا او طوعا او كليهما معا عليها، مما يسمح لعدواها بالتسلل الى الداخل المثقل بانقسام عمودي لا شفاء منه، وذلك انطلاقا من واقعين: الاول ان ثمة من نظر طويلا وحتى في سني ازدهار السلام والاستقرار الى فرضية ان الحرب لم تضع اوزارها بعد، وان ما حصل هو سلم اهلي بارد يطوي تحت جناحه قابلية الاشتعال كون عوامل التفجير لم تبلغ حد الاستئصال. والثاني، جموح بعض اصحاب العصبيات الطائفية الى اعتقاد فحواه ان اللحظة هي لحظة تصفية الحساب انطلاقا من مقولة ترابط الساحات وكسر المحاور و”الهلالات”.

وبالفعل سرعان ما ظهرت في مناطق مثل الشمال والبقاع بؤر توتر واحتقان برزت فيها صور مستعادة من سني الحرب الاهلية والوان احتراباتها وازدادت هذه المظاهر احتقانا بعد دخول “حزب الله” الى الميدان السوري الى جانب النظام.

ولكن رياح الامور جرت بما لا تشتهي سفن البعض، اذ ما لبثت الساحة الداخلية ان لفظت كل مؤشرات الاحتراب ونذر الحرب الداخلية.

ومن البديهي ان ثمة رؤى متعددة وتعليلات متكاثرة حيال تفسير هذا التطور الايجابي الذي ابعد شبح الحرب الاهلية التي خيل للبعض انها آتية ولا ريب، وابرزها:

– ان الطرف الاقوى والاكثر تنظيما واحترافا اي “حزب الله” ابدى حرصا استثنائيا على قفل الابواب امام فرص الحرب الاهلية او ما يعادلها، وهو امر عزاه البعض الى ان الساحة الداخلية قد ضاقت بطموحات الحزب البعيدة المدى والعابرة للحدود، لذا هو يريدها ساحة مستقرة وليست رمالا متحركة يغرق في متاهاتها، واختصارا يريدها قاعدة انطلاق آمنة. لذا كان مالوفاً ان ينبذ الحزب كل استدعاء او اغواء له للانزلاق نحو مواجهات داخلية، وحافظ على رباطة جأش نادرة في وجه استفزازات الخصوم.

– وفي المقابل، حرص خصوم الحزب، ولو متأخرين، على عدم الذهاب في لعبة تحدي الحزب الى مرحلة كسر العظم، فأقبلوا على خيار القبول بتشاركية حكومية مع الحزب لادارة التناقضات، وان يجلسوا واياه الى طاولة حوار واحدة وهي عملية اطلق عليها مصطلح “ربط النزاع”.

– تنامي ظاهرة الارهاب بعدما تحوّل مشروعا كبيرا يطمح الى اجتياح كل الساحات والحدود ولا يقيم أي اعتبار لأي حساب.

– ابدت القوى الدولية حرصا غير معهود على ابقاء الساحة اللبنانية تتمتع بقدر من الاستقرار لأمرين: الاول خشية كسر المعادلات فيها، والثاني لانها لم تعد في نظرها ساحة احتراب بقدر ما هي ساحة ارتكاز وملاذ لكل اجهزة المخابرات والنشاطات ذات الصلة.

– ثمة اجيال من اللبنانيين عايشت الحرب واكتوت بنارها، وهي نصّبت نفسها حارسة للذاكرة تقرع ناقوس الخطر وتتلو فعل الندامة عند بروز اي خطر من اتقاد الحرب الاهلية مجددا، وقد كان لها دور فاعل. وعليه فإنه بعد انقضاء ربع قرن على هذه الحرب ثمة اطمئنان الى ان اللبنانيين اتعظوا بعدما ذاقوا ويلاتها بالجملة وانهم لن يتجاوبوا مع اي عملية استدعاء لها، ولكن الحرص واجب ولا بأس ان تكون ذكرى 13 نيسان مناسبة للتذكير عسى تنفع الذكرى مع قناعتهم بأن الحرب وإن انقضت لكنها ما أرست دولة مواطنة وعدالة تؤمن للبنان عصمة ابدية من عودة مثل هذا الجحيم الذي عاشه لبنان قبل 25 عاما.