Site icon IMLebanon

الحرب التي خسرها اللبنانيون مرتين

ولدت الحرب اللبنانية «الكبرى» منذ أربعين عاماً. عمّرت خمسة عشر عاماً. أنفقت دولة وناساً وراكمت خراباً وقتلى. وعندما تعبت وخارت قوى المتحاربين فيها، فاتت اللبنانيين فرصة موتها. لم يدفنوها. تركوها «وديعة مخيفة»، يهتدون بواسطتها إلى الهاوية.

انتهت الحرب من دون أن يستفيد اللبنانيون من تجربتها. أعادوا صياغة حياتهم السياسية عبر الإمعان في اقتسام تركة الدولة بين أمراء الحرب وورثتهم. الشعارات التي رفعت عشية اندلاع المعارك، قُتلت كلها، السيادة استُبيحت، الحدود انتُهكت، الاستقلال مشاع، القرار الحر مبيع، برنامج «الحركة الوطنية» اصطف خلف المتراس الطائفي وفي الخندق الفلسطيني، فسقط في الداخل وأُسقط من الخارج. لم يبق بعد الحرب، غير أهل الحرب الأهلية.

هي حرب أهلية نموذجية مليئة بالعبر والحقائق الدامغة. لم يعترف اللبنانيون بفضائل الحروب وتجاربها. لعل أبلغ ما تنجبه «الحروب المفيدة»، ذلك التوق الجميل إلى إقامة السلام. فاتهم ان يحلموا بهذا المستحيل المطلوب. فضّلوا عليه نزع السلاح العسكري والإبقاء على الأسلحة الفتاكة، تلك التي تنتجها العقول والنفوس، وتتربى في ثقافة الطوائف والمذاهب ومناهج الإلغاء المتبادل، والتي «فرّخت» صيغة «العيش المشترك» الهشة، التي لا تعلوها سلطة غير سلطة النقض المتبادل.

«عيش مشترك»، عقيدة هشة ومفلسة وغير مطابقة لوقائع «العيش المختلف والمتناقض والمتناقص»، تنتج سلطة هشة ومفلسة وغير مطابقة لمقتضيات الحد الأدنى من الدولة، أو الحد ما دون الأدنى من شرعية الحكم، وفق ما جاء في النصوص.

بعد الحرب، خرج اللبنانيون أسوأ مما كانوا عليه، يوم دخلوها، ظهيرة الثالث عشر من نيسان في العام 1975. لذا، استمرت الحرب هاجساً يراود اللبنانيين ويُخيفهم. فعاشوا في حماية القبضة السورية، ثم في مشاعات السلطات المذهبية، صاحبة الحق الشرعي في إخضاع الدولة واستلاب مؤسساتها.

يراود اللبنانيين هاجسُ عودة الحرب مرة أخرى، بطريقة أخرى. يرجحون إمكانية استعادتها، لتوفر الظروف التي انتجت حربهم السابقة. لا مغالاة في المقارنة بين الأسباب التي أفضت إلى الحرب في الماضي، وبين الأسباب الكثيرة والفاقعة التي توفر الظروف لحرب جديدة. غير أن الحرب لم تشنّ. الانقسام حول العمل الفلسطيني المسلّح انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، يكاد يتفوق عليه عامل انقسام اللبنانيين الحاد بين محور المقاومة وبين محور الاعتدال والمسالمة. الأول بقيادة إيرانية، ومعيّة شيعية (علوية واثني عشرية وزيدية الخ) والثاني، بقيادة سعودية، بحضانة سنية. والمحوران يشتبكان في عدد من الأقطار العربية، ويتصارعان بالأسلحة المتاحة، في اليمن والعراق والبحرين وسوريا. مثل هذا الانقسام الإقليمي واشتراك أطراف لبنانية فيه، كان من المتوقع ان يفضيا إلى سقوط لبنان في «المحرقة»، ولكنه لم يفعل، أنه يشارك بالحرائق، من دون أن يقع في أتونها، حتى الآن.

لعل العجز هو الفضيلة الوحيدة التي تسببت في حفظ لبنان في منطقة «السلام المهدّد». القوى اللبنانية الموزعة على بعض الطوائف، عاجزة عن كسر التفوق الذي تحوزه المقاومة التي شرعت لبنادقها ومقاوميها المساهمة في القتال الدائر في سوريا وبعض العراق… لعل العجز المصحوب بالتوزع الديموغرافي الذي نتج عن التهجير والنزوح في الحرب، واستتبابه بعدما، يوفر مناطق أمان للبيئات المذهبية والطائفية التي بات معظمها نقياً من «الخوارج» عليها. تعبير «البيئة الحاضنة» راج كثيراً بعد الحرب، لدلالته الجغرافية والسياسية والمذهبية. وقد ورث هذا التعبير، شعاراً أثيراً لدى القوى المسيحية، وهو شعار «المجتمع المسيحي». ولقد كان كذلك، إذ تشكلت منطقة جغرافية في انحاء من جبل لبنان، تمتع فيها المسيحيون بصفة النقاء الطائفي. التوزع الديموغرافي، يحول دون الاحتكاك في مناطق باتت حكراً لطوائف مطمئنة إلى «معازلها» والمذاهب تتشابه، خاصة عندما تتناقض. ثمة منطق واحد يجمعها ويبدّدها في آن.

ولا خوف من البرامج الإصلاحية. كأن هناك يقيناً بأن لبنان غير قابل للإصلاح، لا بل إن مشاريع الإصلاح، مهما كانت ضئيلة وشكلية، قد تهدد الصيغة الهشة، التي ارتضتها سلطات ما بعد الحرب، خشبة خلاص. «اتفاق الطائف» المنقوص والمنتهك، أفضل من تطبيقه، لأنه يقوّي الدولة ويضعف القوى التي تشغل أو تمثل الدولة.

يرجح عدم اقتتال اللبنانيين. ليس بسبب ما أخذوه من عبر الحرب اللبنانية، بل بسبب عجزهم المبرم عن خوضها، وعجزهم الفكري عن إنتاج صيغة سياسية تتناسب مع طبيعة الاجتماع اللبناني وانقساماته المتوارثة والمستجدة، ومع طبيعة الإقليم وصراعاته، وطبيعة الكيان الإسرائيلي. أي أنه كان بالإمكان تنظيم الفوضى اللبنانية المذهبية، في إطار الحد الأدنى من الدولة، مع «وثيقة تفاهم» مبرمة، تمنع انزلاق اللبنانيين إلى الخنادق العسكرية. ما زال الوقت متاحاً. هل يتلمّس الحوار الحروف الأولى من «وثيقة السلم الأهلي اللبناني»؟ ليته.

لا أمل أكثر من ذلك؟ لعلّه

على أن السؤال المقلق، هو سؤال الجيل الذي لم يعرف الحرب. من حكم لبنان، بعد الحرب، هو قيادات الميليشيات الطائفية، والقيادات التي تربّت على هامش الحرب، عبر أدوار لعبتها، إما سلماً وإما تسوية وإما انحيازاً. حكومات لبنان التي كانت محمية من مذاهبها ومن قوى خارجية إقليمية، ذات ثقل مرهق وحاسم، لم تضم جيلاً جديداً، تعرّف إلى الحرب اللبنانية، بأحداثها ومعاركها وشعاراتها وعبثيتها.

إذا كان عمر الحرب أربعين عاماً، فهذا يعني أن من بلغ الأربعين اليوم، يجهل الحرب، ولم يتعرف إليها البتة، كما هي. وإذا ادعى أنه يعرف عنها، فما يعرفه منقول على ألسنة مرتكبيها ومبرريها. أي هو جاهل بالحرب كسردية مستقلة عن روايات مرتكبيها. وما يعرفه هو الرواية الخاصة بأفرقاء الحرب، وهي روايات مبرمة، تلقن بالقول وما انتقته الذاكرة الخصوصية الطائفية، التي تبرئ الذات وتحمّل الآخر (العدو) آثام الفتنة.

لقد تم إخفاء الحرب الحقيقية عن أذهان الجيل اللبناني الجديد. الذي يشكل أكثرية اللبنانيين اليوم. تم تلقين اللبناني المسيحي، الصيغة الكتائبية ـ القواتية ـ العونية، وتم تلقين السني، الصيغة الهجينة، التي تقرّبت من الصيغة الكتائبية ومن شعار «حروب الآخرين» في لبنان، متجاهلة ان السنة، اعتبروا «منظمة التحرير الفلسطينية» هي جيش المسلمين السنة في مواجهة «الجيش اللبناني الماروني». أما الصيغة الشيعية، فقد ألبست السردية الخاصة بـ «أمل»، التي هي خليط من «الحرمان» و «المشاركة» ومن «اللبننة والعروبة المسورنة»، مع القليل من فلسطين والكثير من الطعن بالفلسطينيين. وإلى جانب هذه السردية الخاصة بـ «أمل»، سردية مختلفة لـ «حزب الله»، لكونها سردية اختصت بتقديم مقاومة الاحتلال على ما سواها، والالتزام بذلك، من دون التفات يُذكر إلى ما يجري داخل البناء اللبناني المتداعي. أما السردية الدرزية، فهي لا تستقر على حال. فلكل حقبة سرديتها الخاصة. الماضي لدى هذه الطائفة سياسياً، تعاد صياغته، وفقاً لمتطلبات الحاضر. فالجنس السويّ أحياناً، يمكن أن يصبح الجنس الرديء، وهكذا دواليك.

ويُخفي معظم هذه السرديات الارتكابات الفادحة، المجازر المتبادلة، التقاتل الأعمى، الاعتداءات على الأبرياء، التهجير المنهجي، الغزو العسكري، الخطف المجرم، قتل الأبرياء، (رجالاً ونساءً وأطفالاً) إبادة القرى والبلدات، الإذلال على المعابر والحواجز، التعذيب والتشويه والتمثيل بالجثث، ثم إخفاء المقابر الجماعية.

يخفي معظم السرديات مجزرة صبرا وشاتيلا. تتعامى عن مجزرة مخيم تل الزعتر، تتناسى منكرة الرقص وشرب الشمبانيا على الجثث في الكرنتينا، تهمل مجزرة الدامور ونبش القبور وتدنيس المعابد وتطهير البلدة من كامل سكانها وتشريدهم عبر فلوات البر وأمواج البحر. تتناسى مجزرة بحمدون، وتدمير قرى في الشوف وبعض مناطق عاليه. تبتعد عن ذكر الاغتيالات الجماعية وحفلات القتل الموسمية كـ «السبت الأسود»، ممنوع ذكر أسماء القتلة والجزّارين، وهم معروفون وقد تبوأوا مراكز حساسة في الحكومات المتعاقبة وفي المؤسسات الرسمية. وأطرف ما استحدث من خلْف منطقي، لم يسبق لبنان أحد فيه، وهو «وزارة المهجرين»، التي أعطيت حكراً للقادة الذين تولوا تهجير أكثر من 850 ألف لبناني من بيوتهم وقراهم وأماكن سكنهم.

هذه الحقائق ممنوعة عن الجيل الجديد من اللبنانيين. هؤلاء، لو أتيح لهم أن يروا الصورة الحقيقية للحرب، وان يتعرفوا إلى أحداثها وأن يتبينوا مرتكبيها، لخرجوا بخلاصات مختلفة، وبخيارات جديدة، لا تمت إلى الصيغة التي نتجت من تسوية، هي بمثابة صفقة، حصل فيها المرتكبون على حصتهم التامة من البراءة الكاذبة (قانون العفو) وعلى حصتهم الكاملة في السلطة اللبنانية وفي النظام. ولا نظلم الذين شاركوا في الحكومات، وما كانوا مشاركين في الحرب، لأن الشراكة ليست بريئة بالمرة من الفواتير والمغانم والتسلط، والمسامحة المجرمة للمرتكب، والتغاضي التام عن حقوق الضحايا والقتلى والمهجرين والمخطوفين.

لو أتيح للجيل الجديد، جيل بعد الحرب، أن يدرس الحرب في المدرسة او ان يتعرف إليها في الجامعة، لكان أدرك عمق الهوة التي تفصله كلبناني، عن لبنان الراهن، الذي يتعامل معه بسلبية غير مجحفة، حيث إن معظم هذا الجيل، قد فقد الأمل بلبنان الذي يحبّه، وبات هدفه الأسمى أن يجد بديلاً عنه، في هجرة عمل، أو في هجرة نفي.

جيل يتربّى على منظومة قيم عالمية ووطنية، ويجد لبنان بعيداً عنها، ويتساءل، كيف يعيش في بلد، بلا قيم وبلا أخلاق وبلا محاسبة وبلا مساءلة وبلا تجديد؟ جيل درس في الجامعات تجارب العالم السياسية والحقوقية والقيمية، ويرى أن بلاده «داشرة»، كل «صغير» فيها، يتمتع بحصانة طائفية ومذهبية، تؤهله ليكون «كبيراً» ومن عليّة القوم… جيل نظيف، أُجبر على التدرب على قيم الفساد والإفساد، ومناهج الاتباع والاستتباع، وممارسة اليأس، إذا عاند ورفض الانجرار في موحلة السياسة.

بعد أربعين عاماً على اندلاع الحرب اللبنانية، يميل البعض إلى القول: «الحرب لم تنته بعد»، أو «إنها على الأبواب»، كلما عصفت في الإقليم أزمة أو حصلت في الداخل تشققات إضافية. قد يحصل ذلك وقد لا يحصل، غير ان نتائج الحرب لما تنته بعد، ما تزال فاعلة في سلسلة الوقائع والأحداث، أبرزها، تضاؤل الدولة وتعاظم الشروخ والانقسامات ومواقع النفوذ. انعدام السياسة واستفحال المراوحة والتراجع والقبول بالحدود الدنيا. تشظي الجماعة الوطنية إلى جماعات مسلّمة بحقوقها بالحصة المستحقة لها في النظام والمال والمشاريع. استتباب الديموغرافيا الجديدة، وفرض منطقها على المؤسسات الرسمية التربوية والإدارية والجامعة والـ… سطوة الفراغ والتعايش البناء معه.

بعد أربعين عاماً، يحق للبنانيين ان يتساءلوا، متى تتوقف مفاعيل الحرب؟ هل من أمل؟ هل يلتئم ما انقسم؟ أيتوقع نشوء ثقافة جديدة تصارع ثقافة التمذهب والتكفير والاستتباع؟

تصعب الأجوبة

لم ينتصر أحد في الحرب الأهلية. ما اعتبره البعض فوزاً لطائفته، لم يكن إلا تحسين موقعه وحصته في السلطة. ولأن أحداً لم ينتصر، فإن أحداً لم يفرض برنامجه أو شعاراته على الآخر. كان النظام سيئاً، فصار أسوأ. كان المجتمع منقسماً فبات متهالكاً. كان هناك أفق لقيام دولة عادلة ديموقراطية مدنية وسلطة منتخبة على قاعدة المواطنة وليس المواطفة، أما اليوم، فالانسداد، صفة الآفاق كلها. ولا طمع للبنانيين، غير السلامة أو الهجرة.

وحدهم ورثة الحرب وأتباعهم، أسياد هذا الفراغ الكبير.