يعتلي رتبة سفير المنتجات في الأسواق الأجنبية ويرافق الناس بأحلى أوقاتهم
عند الحديث عن الصناعات الزراعية التصديرية، يتبادر إلى ذهننا النبيذ اللبناني. فهذا المنتج الذي شق طريقه إلى مختلف الأسواق العالمية، وحجز لنفسه مكاناً ولو “متواضعاً” على رفوف بعض المتاجر الأجنبية، تتعاظم أهميته في ظل الأزمة الإقتصادية.
عدا عن الدور الذي يلعبه النبيذ في تحفيز المزارعين على “تكريم” الأرض وتأصيل بورها بكرمات العنب، و”ثَملِ” الرساميل والإستثمارات و”سقوطها” في براميل خشبية عتيقة، فهو يختزن طاقات كامنة، لم تتفجر بعد إنتاجاً وارفاً (الأوراق الخضراء) نحن بأمس الحاجة إليها.
ينتج لبنان سنوياً ما بين 8 و10 ملايين زجاجة نبيذ. نصفها يصدر إلى الخارج بمتوسط مردود سنوي يبلغ حوالى 15 مليون دولار. إلا أن هذا الرقم من الممكن “مضاعفته أو حتى “تربلته” ورفعه إلى 40 و50 مليون دولار، في حال ترافقت الجهود المحلية مع خطة تسويقية في الخارج، تُعرّف العالم على النبيذ اللبناني”، يقول المدير العام التنفيذي في جمعية التجارة العادلة فيليب عضيمي، فـ”النبيذ المصنع محلياً لا ينقصه اي شيء. فهو ينتج من أفضل أنواع الكرمة وأكثرها جودة، بحسب مختلف التقارير العالمية. وهو يتمتع بطعم مميز وبمطابقته لأدق المواصفات والمعايير العالمية لجهة النوع والشكل والطعمة وتنوع الأصناف. لكن تبقى نقطة ضعفه الوحيدة هي العجز عن افتعال إختراقات كمية ونوعية في الأسواق الخارجية. الأمر الذي لا يحرم لبنان من التوسع في زراعة الكرمة وإنشاء معامل جديدة فحسب، إنما على تصريف فائض المخزون السنوي. وهذا ما واجهه المصنعون في العام الماضي تحديداً”.
التقصير في الوصول إلى الأسواق، يعوض عنه النبيذ اللبناني في نيله الجوائز والميداليات عند مشاركته في المنافسات العالمية، بحسب وزير الثقافة السابق سليم وردة. ما يدل على الجودة المرتفعة في هذا المنتج الذي يعتبر خير من يمثل الانتاج اللبناني. بيد أن صعوبات عدم انتشاره في الخارج على قدر جودته يمكن تلخيصها بحسب وردة بـ3 أسباب رئيسية:
– إفتقار لبنان إلى القدرة التسويقية والإعلانية في الخارج على غرار بقية الدول والشركات المنتجة للنبيذ. وهذا يرتبط أيضاً بكمية الإنتاج المحلي التي تعتبر متواضعة أمام الكميات المنتجة على الصعيد العالمي.
– عدم قدرة النبيذ اللبناني بصفته منتجاً أصلياً مصادقاً عليه “ethnique vin” من الخروج من دائرة المطاعم اللبنانية العاملة في الخارج إلى رفوف المتاجر، إلا بنسبة قليلة.
– إقفال نسبة مرتفعة من المطاعم والفنادق حول العالم ظرفياً ولفترات طويلة نتيجة جائحة كورونا. مما انعكس سلباً على تصدير النبيذ اللبناني إلى الخارج.
إذا كانت الظروف العالمية المتأثرة بانعكاسات جائحة كورونا، والداخلية الواقعة قسراً في شرك إقفال المطاعم وانهيار القدرة الشرائية تعتبر إستثنائية لتسويق النبيذ، فان “عدم وضع لبنان على خريطة النبيذ العالمية، سيقوض كل الجهود المبذولة محلياً”، برأي عضيمي، فـ”لبنان ما زال مستثنى من جناح خاص به في متاجر المشروبات في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها الكثير من الدول”. وفي الوقت الذي نرى فيه أجنحة عرض خاصة بفرنسا وإيطاليا وأميركا وحتى حديثاً بالمغرب، الذي بدأ يأخذ مؤخراً حيزاً كبيراً، لا نرى أي وجود تسويقي فعلي للبنان. وعرضه يقتصر على بعض العلامات التجارية الموجودة على رفوف القليل من المحلات. وهذا ما يتعدى، بحسب عضيمي، “الجهود والقدرات الفردية على التسويق، ويتطلب تدخلاً جدياً من ممثلي البعثات الديبلوماسية والملحقيات الإقتصادية في الدول لتسويق نبيذ لبنان، بموازاة الحملات الإعلانية الضخمة التي تقودها بلدان أخرى”.
صحيح أن خلق سوق للنبيذ اللبناني، وتناول الصحف الأجنبية المتخصصة لجودته يؤثران إيجاباً على واقع المنتج في الخارج، إلا أن “تخصيص ميزانيات كبيرة للتسويق على غرار أستراليا وجنوب أفريقيا، ودعم التصدير على غرار الدول الأوروبية يصنعان كل الفرق”، بحسب وردة، “ففرنسا وإيطاليا وإسبانيا تدعم أكلاف التصدير، وتخصص 1 يورو لكل صندوق نبيذ مصدر إلى الخارج. أمّا عندنا، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها وزارة الزارعة للمساعدة في انتشار النبيذ، فقد بقيت محكومة بميزانية صغيرة لا ترقى إلى الميزانيات المخصصة لتسويق النبيذ الأجنبي”. وبرأي وردة فان “الزراعة والإنتاج المحليين سيبقيان محدودين طالما لا توجد أسواق جديدة يصدر إليها النبيذ اللبناني. فالسوق هو الذي يحكم كل شيء. وإيجاده وتطويره يعتبران أساسيين للاستثمار في الزراعة والإنتاج.
التصدير يطور الزراعة
زيادة الصادرات بمقدار الضعف أو أكثر تفرض في المقابل التوسع في زراعة الكرمة بنسبة موازية. ولعل ما حدث في دير الأحمر وجوارها الممتد على 11 قرية وضيعة، خير دليل على قدرة المزارعين والإمكانية العالية التي تختزنها الاراضي. فانتاج الكرمة لتلبية المعامل ارتفع تدريجياً من 300 طن في السنوات الأولى إلى 700 طن، ووصل اليوم إلى 1200 طن. والعمل مستمر لرفع الإنتاج إلى 1500 طن تكفي لتصنيع مليون و100 ألف زجاجة نبيذ إضافية. وبحسب وردة فقد ازدادت المساحات المزروعة بالكرمة المخصصة للنبيذ على صعيد الوطن أجمع حوالى 3 أضعاف منذ 18 عاماً”. كما أن آفاق التوسع في الزراعة أفقياً من خلال استصلاح الأراضي، وعمودياً من خلال تطوير المنتج ما زال واسعاً جداً. فهناك الكثير من المساحات التي يمكن استغلالها في القاع ومناطق البقاع الشمالي.
43 معملاً وآلاف فرص العمل
يوجد في لبنان 43 معمل نبيذ ومن الممكن أن تصل إلى 50 إذا أضفنا اليها المعامل التي تنتظر الترخيص. وإذا افترضنا أن انتاج 8 ملايين زجاجة يتطلب حوالى 20 ألف طن من العنب، فان هذا القطاع يخلق حوالى 10 آلاف فرصة عمل في المجال الزراعي، ونحو 15 إلى 20 وظيفة في كل مصنع بحجم متوسط، بالإضافة إلى آلاف الوظائف في قطاعات الخدمات اللوجستية من تغليف وتعليب ونقل وتسويق وإعلان. وبالتالي فان كل زيادة في الانتاج والتصدير تساهم بتحريك العجلة الإقتصادية وزيادة تدفق العملة الصعبة. كما أن هذا القطاع لا يتطلب الكثير من المواد الأولية. وباستثناء الفلين والعبوات التي تستورد بشكل أساسي بالعملة الصعبة فان مختلف مكوناته مؤمنة محلياً. هذا ويعتبر عضيمي أن “عوائد التصدير تفوق بمقدار الضعف أو أكثر أكلاف المواد الاولية المستخدمة خصوصاً لجهة العبوات التي تشكل حوالى ثلث كلفة التصنيع لكل زجاجة نبيذ.
بالإضافة إلى كونه سفير المنتجات ومرافق الناس في أوقاتهم السعيدة، فان النبيذ اللبناني بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الدعم والتطوير وجعله مصدراً أساسياً لتدفق النقد الأجنبي.