في زمان اقتحمت فيه السيدات ميادين العمل السياسي، وفي طليعة من نذكر منهن في قمم الحكم الأوروبي، كلا من رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر التي اكتسبت من نجاحها الكاسح في الحكم ومن حزمها في إدارة شؤون بلادها، لقب «المرأة الحديدية»، والمستشارة الألمانية الحالية أنجيلا ميركل التي لامست نجاحات مماثلة وأحيانا متفوقة على تلك التي حققتها الرئيسة تاتشر، مشيرين إلى أن الميدان السياسي الأميركي يتهيأ حاليا لانتخابات رئيس جديد له يرجح أن تكون هيلاري كلنتون، وهي ليست في حاجة لمزيد من التعريف والتوصيف، بما عرفت عليه من مزايا قيادية وخبرة سابقة اكتسبتها من مجمل عملها في الحقل العام وفي طليعتها كونها زوجة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، حيث كان لها أكثر من جهد في معاونته ومساندته في أعبائه الرئاسية، كما كانت على حكمة وتبصّر في معالجة كل الكوارث الشخصية التي أنزلها عليها من خلال مغامراته النسائية التي واكبت حياته في الرئاسة، وكانت «للزوجة الحديدية» قدرة على الصبر وعلى النجاح في تجاوز طراطيشها المعنوية التي طاولتها، وربما كان ذلك استطلاعا ذكيا لما يمكن أن يكون عليه دورها السياسي الذي قد يجعلها على قمة الحكم المقبل في الولايات المتحدة الأميركية.
وها نحن الآن بصدد التهيؤ لانتخاب أمين عام جديد للأمم المتحدة، ولأمين عام لمنظمة اليونيسكو، والمساعي الدولية بهذا الخصوص تصب في أغلب قواها الفاعلة على أن تكون الأمانتان أو على الأقل واحدة منهما، من نصيب سيدة ما، تصر روسيا المطلّة برأسها الطموح والمشاكس على العالم، من خلال ما تفعله وما فعلته في سوريا، على أن يكون الخيار منصّبا على سيدة تنتمي إلى بلدان الاتحاد السوفياتي القديم، والملفت أن المرشحين الآخرين بينهن عدد مهمّ من السيدات اللواتي برزت كل منهن في حقل من الحقول السياسية والدبلوماسية سواء في بلادهن أم في مجال الخدمة في أوساط الأمم المتحدة في الكثير من مؤسساتها متعددة الأوجه والحقول.
من هذه القمم العالية التي ذكرنا أبرزها وأقربها إلينا في الزمن، ينتقل بنا القلم إلى لبنان، متناسين سلفاً كل مآسيه ومصاعبه وكونه بات يُنظر إليه في العالم على أنه البلد السائر بيديه ورجليه نحو مواقع الدول الفاشلة، بل هو «يتميز» عنها بأنه قد فشل طويلا في معالجة أزمة النفايات لديه وهو حتى الآن ما زال يحاول، ومن خلال ما تبقى لديه من وسائل السلطة والحكم، أن يتخلص من هذه المصيبة المادية والمعنوية التي طاولته إلى جانب مصائب أخرى أشدّ وزنا وثقلا سلبيا على مصير البلاد، لعل في طليعتها، ذلك العجز المتمادي والمتفاقم، عن انتخاب رئيس للجمهورية يعيد للبنان بعضا من توازنه وسمعته كبلد ثقافة ونور ومعرفة، ومجلس نيابي ما زال على حاله وفشله في تجديد ذاته بصورة ديمقراطية سليمة من خلال انتخابات نيابية تجري في أوانها، ومن خلال عمل تشريعي ورقابي مستمر، متوقف حاليا، وكل النشاط النيابي القائم منحصر في المناورات والمصارعات التي تجري خارج المجلس والتي لا تمت بصلة إلى العمل النيابي من قريب أو بعيد.
بعد ما ذكرنا… ينتقل بنا القلم إلى صفحة لبنانية جديدة نأمل أن تكون بيضاء وناجحة في إعادة البلاد إلى بعض موقعها في الحياة الديمقراطية، ألا وهي صفحة الإنتخابات البلدية التي تمت الدعوة إليها قولا وفعلا من قبل وزير الداخلية، وحددت مواعيدها، قولا وفعلا، فأنعشت بعض الآمال بأن هذا البلد ما زال فيه بعض من الملامح الديمقراطية.
انتخابات بلدية لها أهميتها في تسيير شؤون الناس خاصة منها ما تعلق بشؤون مدنهم وقراهم ودرء أخطار مزيد من النفايات عنها، وتمكينهم من قبض ما يعود إليهم من عائدات ورسوم، ومنع الدولة من حجزها والتصرف بها لمصلحتها، وتنفيذ المخططات والمشاريع الإنمائية وتشجيع أهل كل مدينة وكل قرية في إقامة مشاريع تخدم مصلحة مدينتهم وقريتهم بالقدر الذي تخدم فيه مصالحهم. لدى المواطنين شوق كبير للعودة إلى ما اعتادوا عليه في حياتهم السابقة لهذه الأيام السوداء، وهم ما زالو يذكرون أنهم كانوا يمارسون العمل الديمقراطي بشتى أشكاله وأنواعه حتى في أشد الأيام حلكة وسوادا وتفلتا أمنيا واحترابا داخليا، اشتاق اللبنانيون إلى حرّيتهم وممارستهم لشتى صنوفها وممارستها لحياة ديمقراطية يدلون فيها بأصواتهم ويحققون بها بعضا من إراداتهم.
يعود بنا القلم، إلى ما هو ممكن في هذه الأيام، نعود إلى وضعية تجسدت قولا وفعلا بدعوة وزير الداخلية إلى إجراء الانتخابات البلدية المليئة بالتصميم والتأكيد على أنها ستجري وستنفّذ لا محالة، وبالتالي، ومن خلالها ندخل مجددا إلى دنيا أقلام الاقتراع والتقاليد الديمقراطية العريقة التي كان لبنان أول من مارسها في هذه المنطقة العربية، عبقٌ ديمقراطي مشكور نأمل أن يكون مدخلا إلى كل ما يؤدي بالبلاد إلى عودتها لهذه المسالك التي تسهم إلى أكبر قدر ممكن في إعادتنا إلى المسالك التي اخترناها وأقرها لنا دستورنا وارتضيناها نهجا لحياتنا السياسية.
وعودة بنا إلى مقدمة هذا المقال، التي تحدثنا فيها عن اقتحامٍ كبير ومتزايد للمرأة اللبنانية في إطارات الحياة جميعا وفي مقدمتها العمل في السياسة والأحزاب والمشاركة في الانتخابات، وصولا إلى الحدود العليا التي أشرنا إليها والمتعلقة بوصول السيدات إلى رئاسات بلادهن وإلى نجاح معظمهن في إدارة شؤون البلاد بصورة ناجحة ومتميزة.
المرأة عندنا، رغم أنها دخلت إلى دنيا النشاطات الاجتماعية الواسعة، ودنيا الجمعيات والوظائف الإدارية ودنيا الأعمال والمهن الحرة، وتكاد أعدادها أن تطغى على أعداد الرجال في تلك الحقول، إلا أنهّا ما زالت عاجزة عن دخول الحقل السياسي والبلدي من خلال الانتخابات الديمقراطية التي يقتضي للدولة أن تؤمنها للجميع، صحيح أن بعض السيدات وصلن إلى بعض قليل من المراكز العامة في المجالس النيابية ومجلس الوزراء وبعض المجالس البلدية، وصحيح أن بإمكان قوانين الانتخابات المقبلة أن تحفظ نسبة معينة للمرأة اللبنانية في مجلس النواب وربما في المجالس البلدية لاحقا، إلا أن ما نرجوه للمرأة أن تخوض العمل العام بجدية واندفاع و«مهنية»، شأنها في ذلك شأن نساء العالم في معظمه المتحضر والمتمدن، وأنني لأؤكد أن اللبنانيات بنُخَبهنّ المختلفة، قادرات على تحمل مسؤوليات هذه المهمة لما يتمتعن به من كفاءات وقدرات.
نعلم جيّداً، أن هذا الطموح دونه عقبات كثيرة، فلنكن متواضعين إذاً، وليبدأن بالشأن البلدي، نريده في ما يتيسّر لنا حاليا من عمل ديمقراطي، بعيد ما أمكن عن الغوغائية السياسية والفساد السياسي المتغلغل في هذا الزمان الرديء في أعماق السياسية والسياسيين