لا تسألوني عن «هوكشتاين» الأميركي والتنقيب عن الغاز…
ولا تسألوني عن «أينشتاين» اللبناني والتنقيب عن الحكومة…
إنّ سؤالاً أعظم يلـحّ عليّ، يضغطُ بعنفٍ، أُصارعـهُ ويصارعني…
هل أسمحُ لحاكمٍ بأنْ يحتقـرَ ذكائي ليبـرِّئ نفسَهُ من جريمةِ تدمير لبنان؟
أسألُ… أوْ لا أسألُ.. بل أسأل…
ماذا فعلتَ… وماذا فعلتم بلبنان…؟
أيـن ذلك اللبنان العظيم الذي كان…؟ وأين أصبح لبنان الشهيد الذي صار…؟
مِـنْ أيِّ لبنانَ أتيتُـمْ، وإلى أيِّ لبنان تعودون…؟
أسئلةٌ لـنْ نطرحها على علماء السياسة وعلماء الإجتماع وعلماء النفس، فهي ليست معقّدة إلى حـدّ الغموض، هناك أيضاً علمٌ إسمهُ علم البصائر والوقائع والمناظر، علـمُ الركام وألسنة النار، ورائحة الـدم الساخنة، وأناشيد الدمع والوجع والبكاء خلـف الجنازات.
كان عندنا: وطـنٌ إسمه ستة آلاف سنة فأصبح أشبَـه بجثّـةٍ مهشّمةٍ، وحيث تكون الجثـة تكثر الطيور الكاسرة.
كان عندنا مؤسسات وإداراتٌ، فأصبحت مغاور يـدبّ فيها النمل، ومجالس عـزاء يتعالى فيها النـدْب.
كان عندنا: مستشفى وجامعة ومصرف وفندق وتجارة وصناعة وزراعة واستثمارات وسياحة وخدمات، فأصبحت كـأنّ بداياتها المبدعة تحمل نهاياتها المفجعة.
كان عندنا: مـاءٌ وكهرباء ودواء وخبـز ورزق وارتزاق، فأصبح الـرزق على اللـه، وأصبحنا شتاتاً على قوارع الطرق الدولية نمـدُّ الأيدي كالمتسوِّلين، ونحمل توابيت الحياة وتوابيت المـوت.
كنّـا شعباً يعتـزّ بوطنه، بتاريخه، بصيغته، بفرادة خصائصه، بثقافته التي أعطت بالقلم والحبر مجـداً للفكر، فأصبحنا شعباً مشرّداً في الوطن وخارج الوطن، يعدو خلف أجنحة الطائرات هربـاً إلى أقاصي السماوات البعيدة.
والوطن، الذي كان باباً حضارياً منفتحاً على العالمين، أغلق عليه العالم أبوابه وأصبح معزولاً كالنسر الجريح، يحـرّك جناحيه ولا يطير.
أيـن هم أولئك الذين قُرعت لهم الطبول على وقْـع صهيل الخيل وصليل السيوف، وغنَّـتْ لهم الحناجر أهزوجة البطل…؟
أين هـم الذين كانوا يُطلقون الوعـد كصوتِ الرعد في سماء لبنان العظيم، يخلعون التيجان عن الرؤوس ويدقُّون المسامير في العروش…؟
فإذا هم يسقطون استرخاءً أمام الإستقواء وينزلقون في الإنسياق الأعمى نحو الإنهزامية؟
وتبقى الذريعة: هـمُ الذين عارضوا، هـم الذين عرقلوا، هم الذين اعترضوا، هم الذين رفضوا…
ولكن، أنتم ماذا، وأنتم أين، وأنتم مَـنْ، تنفضون عن أثوابكم غبار الفجيعة، والبلد يتعرّى أمام عيونكم ويرتدي ثوباً من العـار والنار، وينهار في ظلمة القـاع على ولْولَـةِ الغربان وصراخها.
إنها… روايـة «الضحية والجلاد» للكاتب الروسي «دوستويفسكي» «حيث للبطل شخصية مزدوجة، شخصان مضادّان في شخصية واحدة يتصارع فيهما الخير والشرّ، وكـلّ منهما يحاول القضاء على الآخر».
أسأل أو لا أسأل: لم أتـرك السؤال يصارعني وأصارعه والوطن يتصارع مع الزوال.
نعم سألتُ: ماذا فعلتَ، وماذا فعلتم بلبنان..؟
والسؤال يحمل في طيّاته الجواب.