الدكتور غازي برو
قبل الـ 75 كان للدولة هيبة إذ كان البلد لا يزال مشروعاً قيد الإنجاز واستقلالاً على طاولة الاستحقاق والاختبار وسلطة وطنية ناشئة وخيارات في الإقليم ودور فيه وحصة للبلد فيه بنهضة المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح كان للفترة من الـ 43 إلى الـ 75 طلعاتها ونزلاتها إنما كان لا يزال الثلج لم يذب فيكشف عما خفي في بنيان هذا الكيان من أسباب ضعف وعورات قاتلة. ولكن بالهيبة التي كانت تتمتع بها الدولة توفر للمواطن سبباً للطمأنينة على مستقبله نوعاً ما لأنه كان يمسك بيده سلاحاً في وجه الدولة إن جارت وهو التهديد بتهشيم هيبها وسمعتها وكان هذا يخيف رجالات دولة ناشئة وجماعاتها وكان كلما برز ما من شأنه أن يطيح هذه الهيبة يتداعى أصحاب الدولة وطبقة حكامها ليرمّموا الشرخ حرصاً على مصالحهم فيتنازلوا عن بعض امتيازاتهم، ودعونا نقول، لم يجاوز بعض الفتات من غنائمهم في السلطة وسمساراتهم مع الخارج القريب والبعيد ويعطوها للمحتجّين والمطالبين والمحرومين من فئات الشعب وطبقاته فتعود على أثر ذلك المياه إلى مجاريها وتستقيم الأمور وتستمر الحياة طبيعياً نسبياً لفترة.
إلى أن دخل على البلد عامل خارجي بالـ 75 خربط لعبة القط الفار بين رجال الدولة وجماعاتها ولم يعد بقدرة الحريصين على هيبة الدولة تقديم ما اعتادوا تقدبمه للمطالبين من فتات لإسكاتهم. وبوجود العامل الخارجي الوافد إلى البلد صارت هيبة الدولة على المحك من جديد إنما ليس في المواجهة مع «ولاد البلد» ومجموعاتهم الطائفية والمناطقية والفئوية إنما في وجه من كانوا يسمّون لاجئين إلى البلد وإلى غيره في الجوار العربي بعدما سلبت أراضيهم في فلسطين واغتصب منهم عام 48 وإخفاق إخوانهم العرب في التصدي لهذا الاغتصاب – الفاجعة. وكان لبروز هذا العامل الوافد إلى لبنان إذاً أثر في ازدياد منسوب التهديد الذي باتت هيبة الدولة اللبنانية تتعرض له يوماً بعد يوم. وبالتالي انفرط عقد الدولة وما يلازمها من هيبة كلياً أمام تضافر عاملين أحدهما داخلي ومتجدد باستمرار إنما باقٍ تحت السيطرة وثانيهما طارئ تفاعل مع العامل الداخلي ليشكّل له دعماً استند إليه هذا الأخير ليتجاوز في تهديده لهيبة الدولة ما لم يعد لدى أصحابها قبوله والتعامل معه بلطف وبالتنازلات الطفيفة التدريجية لاحتواء الاحتجاجات والمطالبات الجزئية من كل نوع، بحيث وُضع أصحاب الدولة أمام خيارين، لا سيما نظراً إلى ما وصلت إليه الطبقة الحاكمة من انقسام حول الحل الواجب اعتماده للحفاظ على هيبة الدولة وتماسك الكيان واستعادتهما، فكانا إما التقسيم فتأسيس كيانين: واحد للمسيحيين وآخر للمسلمين، وإما إعادة توزيع القوة والسلطة داخل الدولة بين أطراف الطبقة الحاكمة استناداً إلى قاعدة المناصفة بين الطرفين الأساسيين في المجتمع: الطرف المسيحي والطرف المسلم، كمسعى للإبقاء على كيان واحد ودولة واحدة موحدة للمسلمين والمسيحيين. حلٌّ تستعيد به الدولة بصيغتها الجديدة التي طبخت في الطائف هيبتها المفقودة تماماً بعد ما تنازع عليها إن لم نقل اغتصبتها ميليشيات الطوائف المتنازعة أو جيّرت إليها برعاية ورضا أطراف السلطة المنقسمين أمام ما وقعوا فيه من مأزق استعصى عليهم الحل فتقاتلوا ثم تعذر على أي منهم أن يحقق لنفسه الغلبة على الآخر.
نحن الآن في لبنان أمام نقطة تحوّل جذري في مسار الكيان بعد أن ثبت للبنانيين وللمرة الألف أن مصيرهم جميعاً على اختلاف طوائفهم ومللهم لم يقرره بداية مع تأسيس هذا الكيان غير الخارج بتواطؤ الداخل بالطبع.
بعد 100 عام من المسار العسير صعوداً أحياناً وهبوطاً في الغالب، وبعد أن دق ناقوس النهاية لهذا المسار في عام 2019 المتمثل في ما سُمّي ثورة بحق لما جمعت حولها في لحظة واحدة ملايين من الناس لم تجتمع يوماً حول شعار أوحد دون سواه يدعو يومئذٍ إلى الانعتاق من أسر هذا الذي فرض على أبناء هذا البلد طوال 100 عام. (ولو أن غدراً أطاحها من أطرافها في الداخل ارتهاناً منهم لإملاءات الخارج، فيصحّ نسميها الآن ثورة 2019 المغدورة).
ولما لم يفهم بل لأنهم فهموا جيداً أصحاب هذا الكيان من مؤسسيه وعرّابيه والمولجين بإدارته أن ما قبل 2019 لا يمكن أن يستمر ما بعد 2019، وأمام فقدان هذه الجهات الضامنة والراعية له ناصية السيطرة على وضعه وإخفاقها في وقف حالة تدهوره وفقدانه للجاذبية، وانتقاله من حال بلد مأزوم في دولته على الدوام إلى حال بلد استبدلت فيه الدولة المأزومة بمنظومة مافيوية ناشطة عبثاً في سعيها وراء المد بعمر هذا الكيان والركون من جديد إلى ما يمكن للخارج أن يوفره لها من أسباب شرعية لاستمرارها وهو الاتفاق على رئيس رمز مولج في حمل برنامج المتابعة يقوم على اعتبارات التوازن بين المصالح الخارجية دونما البحث في الشروط الجذرية الواجب تأمينها للنهوض ببلد حقيقي كامل الأوصاف، بلد لشعب وليس مزرعة أو ساحة تتزاحم عليها مصالح دول وتُحشد من أجل تأمينها طوائف فتصبح عندئذٍ الانتماءات الدينية والمذهبية سلعة تبادل وتفاوض في البازار السياسي للدول. وبذلك يبقى البلد مشرذماً واللبنانيون بغير لحمة كيانية وطنية وشعبية حقيقية. وبالخلاصة لبنان هذا الوجود الفاقد للرابطة الوطنية ولأرض تشكّل وطناً، وبالتالي بقاؤه وطناً معلّقاً لشعب معلّق.
أين هم اللبنانيون اليوم بعد أن خسر أجدادهم وآباؤهم وأبناؤهم الحاليين، وهُمّ جيل الأربعينيات وما بعده من أجيال، وأصبحوا رعايا في «وطن» مع وقف التنفيذ (أي معلّق) مسلوب ومرهون لشتى أنواع العصابات الرسمية وغير الرسمية، الدنيوية والروحية من محترفي النهب وخيانة الأمانات المادية والمعنوية والثروات الوطنية في الظاهر وفي الباطن. إن متابعتنا للأمور تشي بأنها سائرة الى إطلاق العنان منذ الآن وعلى الأمد الطويل لحركة طويلة الأمد، حركة مقاومة [«مقاومون من أجل استرجاع وطن للأحفاد»] تمانع وتقاطع كل ما من شأنه أن يعيد ويدعو إلى ضخ أسباب الحياة في شرايين دولة ثَبُتَ فشل هياكلها وعناصرها البشرية وكان أصحابها سبباً في التفريط ليس بمدخرات الناس في البنوك وفي الخزينة وحسب، ولكن التفريط بأعمار الأجداد والآباء والأبناء الحاليين أيضاً، وإبقاء مستقبل هؤلاء الأخيرين في غياهب المجهول، فيما أرباب النظام وحكامه وزبانياتهم بنوا ثروات لعائلاتهم تكفيهم لثلاثة أجيال قادمة من أحفاهم من بعدهم. تأملوا جيداً بهذا الأمر وقلّبوه جيداً في عقولكم لتستدلوا على ما سوف يعمله كل من يلبّي دعوة هذه المقاومة، كل حسبما يتيحه له وضعه وفهمه، ضمن هذا الهدف ليكون مردوده «وطناً مستعاداً للأحفاد» ممن سلبوه في الداخل والتحقوا بالذين يسلبونه ويتهددونه من الخارج، لأن معظم الشعب بات اليوم مشرّداً على رصيف الوطن بانتظار ترحيله منه جيلاً تلو جيل وماذا سيكون عليه الوضع إذا ما اكتست الحركة وجهين أحدهما ناعم مدني باسم «مقاومون من أجل استرجاع وطن للأحفاد»، ووجه خشن تأديبي، عقابي بحق الذين فرطوا بالوطن من قبيل «فدائيون في سبيل استرجاع وطن للأحفاد». وبماذا لو طلّت هذه الحركة علينا على هذا الدرب بإصدار لوائح بهذا الخصوص في الأوقات المناسبة.
الكلمة الأخيرة بكم يا لبنانيين. عجقة كبيرة بمبادرات من هنا وهناك فيما المطلوب منك يا شعب لبنان تأكيد وجودك وهويتك كشعب من أجل استعادة وطنك السليب حتى لا تصبح الأجيال اللاحقة متناثرة في أطراف الدنيا الأربعة هائمين عديمي الوطن ولهم في مصير الفلسطينيين عبرة.