وأخيراً، وبعد أسابيع من المماطلة والتسويف، وشتى أنواع المناورات من مختلف الأطراف السياسية، تجري اليوم الإستشارات النيابية الملزمة في بعبدا، في أجواء مشحونة بالإحتقان في الشارع، وبالتوتر في السياسة، وسط حالة من القلق والضياع تسيطر على مراكز القرار.
كل الدلائل تستبعد أن يكون اليوم هو يوم الحسم بالنسبة للأزمة الحكومية، ولو إنتهت الإستشارات بتسمية الرئيس المكلف، لأن التأليف سيدخل في مخاض أصعب وأكثر تعقيداً من مخاض التكليف، قد يبدأ برفض شخصية الرئيس المكلف من قبل الإنتفاضة، إذا كان ينتمي للمنظومة السياسية المتهمة بالفساد، ولا ينتهي بانزلاق الشارع إلى مزيد من المجابهات العنفية، التي تهدد بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإشعال نيران شتى الفتن البغيضة، إلى جانب العقبات السياسية التي ستعترض طريق التأليف، وتؤدي إلى تعويم لعبة تفعيل حكومة تصريف الأعمال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!
القراءة المتأنية في يوميات الأزمة، التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، تُظهر أن أهل السلطة ما زالوا يقرأون في كتاب ما قبل ١٧ تشرين، في حين أن الإنتفاضة رسخت وجودها على الأرض، وألهبت وجدان اللبنانيين، وأعادت لهم الأمل بغد أفضل، وبالتغيير المنشود في بنية الطبقة السياسية الفاسدة، وأصبحت رقماً لا يمكن تجاهله.
هذه الهوة بين مرجعيات القرار والناس المنتفضين في الساحات وفي الشوارع، تُنذر بتطويل أمد الأزمة السياسية الراهنة، وتعزز ظروف تحولها إلى مشكلة وطنية من العيار الثقيل، بسبب هذا التجاهل المتمادي لمطالب الشعب بالتغيير، والإصرار على الحفاظ على رموز الفساد والنهب في مواقع السلطة، وتغليب منطق المحاصصة على معايير الكفاءة والنظافة والإختصاص، فضلاً عن التهديد المستمر بقمع الإنتفاضة بالقوة، وإستخدام وسائل العنف وأدواته البشرية والحديدية، دون أي إعتبار لمغبة مثل هذه الممارسات الغبية، وما ترتبه من تداعيات سلبية على البلد، في شتى المجالات الأمنية والإجتماعية، وطبعاً في القطاعات الاقتصادية والمالية المترنحة أصلاً.
ثمة إصرار من الطبقة الحاكمة على عدم التخلي عن مواقعها، أو حتى إجراء الإصلاحات المطلوبة من الشعب، ومن الدول المانحة، والهادفة إلى مكافحة الفساد ووقف الهدر، وتشكيل حكومة قادرة على إستعادة الثقة، ووضع خطة إنقاذ قابلة للحياة، وصالحة لإخراج البلد من واقع الإفلاس الحالي، وصولاً إلى تجديد عناصر السلطة من خلال إنتخابات نيابية نزيهة، وبموجب قانون إنتخابي يلبي طموحات الشباب، ويساعد على تحقيق الإستقرار السياسي المفقود منذ عقود من الزمن.
علّمنا التاريخ أن تطور الأزمات والحروب أشبة بتدحرج كرة الثلج، يبدأ من حادث معين، سرعان ما تحوله المضاعفات الداخلية والتدخلات الخارجية، عن مساره الطبيعي لإشعال الحروب والفتن التي لا تُبقي ولا تذر، مثلما حصل مع حادث إغتيال ولي عهد النمسا الذي أشعل الحرب العالمية الأولى، وكما حصل في لبنان في حادثة بوسطة عين الرمانة، التي بدأت ببضعة قتلى وجرحى، يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥، وإستمرت حروباً طائفية وحزبية وداخلية على مدى خمسة عشرة سنة أوقعت مئات الألوف من القتلى والجرحى.
التظاهرات الغاضبة التي خرجت إلى الشوارع والساحات بسبب تعرفة «الواتس أب»، وتحولت إلى إنتفاضة سلمية وطنية، شملت كل المناطق اللبنانية، ثمة من يُحاول شيطنتها، وإخراجها عن مسارها السلمي، من خلال توتير الأجواء بين المتظاهرين والقوى الأمنية، وإندساس عناصر في الساحات مهمتها جر الطرفين إلى مواجهات مباشرة، كما حصل يومي السبت والاحد، وإنزلاق رجال الأمن إلى إستعمال القوة في التصدي للمتظاهرين، والعمل على تفريقهم وتشتيت جموعهم.
ولا ندري إذا كان ثمة في السلطة، أو على ضفافها، من يتجرأ على تحمل مسؤولية مغامرة جديدة تؤدي إلى تفجير حروب داخلية، لا طاقة للبلد على تحمل مضاعفاتها، وقد تقضي على البقية الباقية من مقومات الكيان اللبناني الحالي.
التطورات المأساوية تتلاحق بسرعة على الأرض، فيما المسؤولون غارقون بأبراجهم العاجية في حسابات الربح والخسارة في المسألة الحكومية المعقدة، بدءاً من سير الإستشارات اليوم، أو تأجيلها في اللحظة الأخيرة، بحجة المواجهات الأمنية المفتعلة في وسط بيروت!
مصير البلد على المحك: إما حكومة سريعة وفق المعايير النظيفة، أو السقوط في متاهات الإنهيارات الخطيرة.
فهل مِن مُنقذ؟