خلاصة تقاطعت حولها القراءات السياسية والعسكرية لحدث اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني، أنّ المنطقة على شفير مواجهة أميركية – إيرانية حتمية وكبرى، وأنّ لبنان في قلب هذه المواجهة تتهدّده عاصفتان سياسية وعسكرية.
نظرياً، وفق هذه القراءات، فإن لبنان، باغتيال سليماني، بات نقطة ردّ محتملة على خريطة مفتوحة، حتى وإن لم يكن يحتل رأس قائمة النقاط المحتملة للرد.
صحيح أن منطق الامور يجعل الأنظار تتجه إلى أماكن أخرى لرد إيران، وصحيح أن كافة المؤشرات تشي بأنّ القواعد الاميركية في العراق، أو ربما تلك المنتشرة في الخليج، ستحتلّ الأولوية في بنك أهداف «القصاص العادل»، كما وصفه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، إلّا أن ذلك لا يعني أن لبنان سيكون بمنأى عن «المرحلة الجديدة» في الصراع المفتوح.
في الحدّ الأدنى، يمكن توقع أنّ كلّ الآمال التي كانت معقودة على تسوية إيرانية – أميركية تنعكس إيجاباً على لبنان، قد تبدّدت. سيصعب على إيران، التي خسرت أبرز قادتها، أن تجلس حول طاولة واحدة مع الأميركيين، أو أن تخطو أيّ خطوة تفاوضية، كان يمكن أن يدفع باتجاهها قادتها السياسيون «المعتدلون».
بمعنىً آخر، يمكن اعتبار أنّ الصواريخ التي استهدفت قاسم سليماني وابو مهدي المهندس في محيط مطار بغداد، قصفت في الواقع التسوية النووية، التي لا شكّ أنّها بدت منذ اللحظة الأولى مدرجة على قائمة «بنك الأهداف» الإيراني الأكثر احتمالية للردّ على المستوى السياسي، وهو ما ينسحب، بشكل أو بآخر على كافة الملفات السياسية التي يمكن أن تكون متصلة بجدلية الحرب والسلم، من سوريا والعراق، مروراً باليمن، وصولاً إلى لبنان.
لعل ما قاله نصرالله بشأن طبيعة الرد يشي بالكثير، يكشف عن طبيعة المواجهة في المرحلة الجديدة، التي يمكن رصدها، سواء في مضمون خطاب نصرالله، او بنظرة معمّقة إلى خريطة المواجهة، التي تبدو مندرجة تحت عنوانين:
– العنوان الأول، يمكن أن يُنظر إليه لبنانياً من زاوية إيجابية، وهي أن لبنان لن يكون في قلب العاصفة العسكرية، بالمباشر، خصوصاً أن نصرالله كان واضحاً في أمرين رئيسيين، هما أن «الجيش الأميركي هو الذي سيدفع الثمن» بقواعده وبوارجه وضباطه وجنوده، مع الحرص على التوضيح بأنّ «المدنيين» الاميركيين هم بمنأى عن الرد. إذا ما عطفنا على تخصيص نصرالله «الجيش الاميركي» بالذكر حصراً – حتى أن إسرائيل لم تُحدَّد كهدف مباشر – تركيزه على التفاعلات السياسية التي تشهدها الساحة العراقية حالياً، وأهمها على الإطلاق مسودة قرار المطالبة بسحب القوات الاجنبية، بعدما انتهكت الولايات المتحدة بغارتها على موكب سليماني – المهندس الاتفاقات القائمة، مضافاً إليها تهديدات قادة الجمهورية الاسلامية وفصائل المقاومة في العراق للجيش الأميركي – حصراً كذلك – يمكن بالتالي حصر بنك الأهداف الذي كان مفتوحاً خلال اليومين اللذين أعقبا اغتيال سليماني على النحو التالي، ليصبح القواعد الاميركية في الشرق الأوسط.
يعني ذلك، أنّ ساحة المواجهة ستمتد على مساحة الانتشار العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، وهي مساحة تشمل عدداً كبيراً من الأهداف، إن في افغانستان، أو في منطقة الخليج، أو في العراق وسوريا.
ولكن ضمن «بنك الأهداف» هذا يمكن اللجوء، بشكل أوّلي، وليس بالضرورة قاطعاً، إلى منهجية الاستبعاد، لحصر الاحتمالات إلى أقصى درجة واقعية ممكنة، أو على الأقل لتحديد الأهداف الأكثر ترجيحاً.
ضمن الدائرة الأكثر اتساعاً للمواجهة المرتقبة، يمكن تحديد الكثير من العوائق اللوجستية والعملانية التي تحول على سبيل المثال دون توجيه ضربة ايرانية للقواعد العسكرية الأميركية في افغانستان، ومن ناحية ثانية، يمكن افتراض أن ثمة عوامل جيوسياسية هذه المرّة قد تجعل استهداف القواعد العسكرية الاميركية في دول الخليج العربي احتمالاً أقل ترجيحاً، أقلّه في المرحلة الأولى للمواجهة المقبلة، سواء تعلق الأمر بتلك المتواجدة في الكويت (التي تحافظ على نهجٍ معتدل في الصراع الإقليمي)، أو قطر (التي باتت أقرب إلى إيران من أي وقت مضى نتيجة الأزمة الخليجية)، أو حتى في السعودية والبحرين، بالنظر إلى عوامل متصلة بامدادات النفط من جهة، وحرية الملاحة في مضيق هرمز من ناحية ثانية، تجعل المواجهة ضمن نطاقهما مؤجلة على إيقاع الرد والرد المقابل.
بذلك يمكن حصر نقاط المواجهة المحتملة بالقواعد الاميركية في العراق، لكون الاغتيال حصل على اراضيه، والثانية، ولكون العراق يشكل مفتاحاً رئيسياً في الانتخابات الأميركية، ذلك ان مشهد «الجنود العائدين في نعوش» كما اشار نصرالله، من شأنه أن يتحوّل إلى كابوس حقيقي لترامب.
وامتداداً لـ«بنك الاهداف»، تبقى احتمالية استهداف القواعد العسكرية الأميركية في سوريا خياراً مرجحاً، لاسيّما أن أحد إنجازات سليماني تمثلت في فتح الحدود، بعد معركة البوكمال، علاوة على أن استهداف نقاط محددة، كقاعدة التنف، يمكن أن يشكل ضربة مزدوجة للولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء، بالنظر إلى أهميتها الاستراتيجية في الصراع الدائر في سوريا، وامتداداته الإقليمية.
– العنوان الثاني، وهو في السياسة، فلا يمكن النظر إليه لبنانياً إلّا من زاوية أكثر من سلبية. منذ أشهر عديدة، انعقدت الآمال في لبنان على اتضاح رؤية الصراع الاميركي – الإيراني، من خلال تسوية ما، كان من المفترض أن يذهب إليها دونالد ترامب بعد انتخابه (المحتمل) في تشرين الثاني المقبل. وإذا كان الغضب الشعبي، ومعه الأزمة السياسية، التي تفجّرت منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، قد اربكت هذه الأجندة محلياً، فإنّ اغتيال سليماني جاء لينسفها كلّياً، ما يجعل المرحلة المقبلة مفتوحة نفق تحدّيات داخلية وسياسية لا متناهٍ.
من الصعب بعد كلّ ما جرى توقّع أيّ تسوية محلية. هذا ما ينسحب على تشكيل الحكومة الجديدة، التي باتت، شئنا أم أبينا، على صفيح يغلي على نيران الإقليم. يعني ذلك أنّ لبنان سيكون أمام احتمال من اثنين؛ إما مزيد من الشلل السياسي الذي سيبدّد ما تبقّى من فرص للانقاذ الاقتصادي تجنّباً للانهيار، وإما الانخراط غير المباشر في المعركة، من خلال حكومة مواجهة، قد تكون أثمانها باهظة، ولكن تسري عليها مقولة «مكرهٌ أخاك لا بطل».