يُخطئ من يعتقد انّ أزمة البلد، تُحلّ بكبسة زر. فحتى ولو تقرّرت المعالجة بجدّية وصدق، وانطلقت خطواتها الاولى اعتباراً من اليوم، فبلوغ الهدف، سيتطلّب سنوات وسنوات، لاستئصال الأورام الخبيثة المنتشرة في كل تفاصيل البلد، وليس فقط في الشأنين الاقتصادي والمالي.
تلك حقيقة، يؤكّد عليها خبراء الاقتصاد والمال، لا يستطيع احدٌ إنكارها أو تجاهلها، ولا يختلف اثنان على أنّ ازمة لبنان أخذت مسارها نزولاً، وإن استمرت على هذا المنوال، لن يطول الوقت حتى يصل الى النهاية الحتمية والانهيار الكامل.
حتى الآن، لا توجد خريطة طريق واضحة، أو مسودة مشروع إنقاذي تلتقي حولها مختلف المكونات الداخلية والسياسية والمدنية، وتتشارك فيها لحرف البلد عن السير في الاتجاه الانهياري، وتحدّد المسار في الاتجاه العكسي، وبالتالي إلزام العقل السياسي الحاكم او المتحكّم بالبلد منذ سنوات، بأن يشتغل – ولو بصورة استثنائية ولمرة واحدة، لمصلحة بلد ينهار، وليس لخدمة كرسيّه، ونفوذه، وهيمنته، وحاشيته – للبحث عن علاجات جديّة وجذريّة مطلوبة من الداخل والخارج، بعيداً من طريقته المعهودة في إدارة دفّة الدولة خلال السنوات الماضية، عبر دفن رأسه في رمال الأزمة المتحرّكة، وتغطية فشله، إمّا بشعارات ملائكية يتنصّل من خلالها من المسؤولية ويلقيها على الآخرين – هذه السياسة ما زالت قائمة حتى الآن – وإمّا بتقديم نفسه طبيباً يدّعي الخبرة، فإذا به يظهر على حقيقته، كطبيب فاشل، يداوي المرض الخبيث بحبتي «بانادول»؟!
امام هذ الصورة، تقف السلطة الحاكمة والحراك الشعبي وجهاً لوجه. وتقتضي الموضوعية الاشارة الى انّ هذه السلطة مدانة من قِبل الشريحة الواسعة من اللبنانيين، ومحل انتقاد على مساحة المجتمع الدولي، ولا خلاف على الاطلاق على أنّ الحراك الشعبي منذ 17 تشرين الأول الماضي قد أشعل شرارة الأمل بإحداث تغيير، والانتقال نحو بناء بلد جديد على اسس نظيفة من الموبقات والارتكابات التي تسببت بالأزمة وعمّقتها على ما هي عليه اليوم.
ولكن؟
السلطة محشورة في زاوية ادائها، وموجوعة من ضغط الشارع عليها؛ خرج منها شركاء اساسيون في هذا الأداء، وفضّوا الشراكة، ونفضوا ايديهم من ارتكاباتهم، وتحايلوا على وجع الناس وقدّموا انفسهم ملائكة بأجنحة اصلاحية، وامّا من بقوا فذهبوا مكرَهين نحو التفتيش عن خلاص يحفظ ماء وجههم بالدرجة الأولى، وبالتالي إنقاذ انفسهم، وعلى هذا الاساس انصبّ جهدهم لاستيلاد سلطة احتوائية للأزمة، حتى وصلوا بشق النفس الى حكومة حسان دياب التي بدأت في مجالس بعض مولّديها، تتعرّض لتشكيك بنجاحها، اكثر حدّة مما يُقال في مجالس خصومها وعلى منابرهم!
امّا الحراك، الذي انطلق بزخم شعبي كبير في تشرين، فيبدو انّ مستوى الحرج لديه، اكبر مما هو لدى السلطة. فالحراك امامه خصم ببنية واحدة، هو سلطة مرتكبة بكل مستوياتها، واما هو، فتبيّن أنّه حراك متعدّد الألوان والأشكال، اختلط فيه المطلبي، بالسياسي، بالحزبي، بالطائفي، بالمذهبي، ما جعل صاحب الصوت الصادق في هذا الحراك، ينكفئ الى الخلف، لتتصدّر الصورة فئات اخرى من «الحراكيِّين» المستَقدَمين بالأجرة، وقَدِم بعضهم، بمشاهد الفوضى والتخريب التي «عرضوها» في منطقة الحمراء ووسط بيروت، شهادة لا لبس فيها بأنّهم فئة «منظّمة» وخبيرة في هذا المجال؟!
هذه الحقيقة لا ينكرها الصادقون انفسهم، بل يرفضونها، لانّ نتيجتها الفورية لم تكن إخضاع السلطة، بقدر ما ادّت هذه الصور الفوضوية والتخريبية بأبعادها السياسية والمذهبية، الى تشويه الهدف الذي نشده الصادقون من اللحظة الأولى لحراكهم، وبالتالي تصعيب مهمتهم اكثر بعدما كانوا قد تمكّنوا بداية الحراك، من تخويف الطبقة الحاكمة من أنّ سيف المحاسبة اقترب من رقاب المرتكبين!
واكثر من ذلك، ارتكب هؤلاء الخطيئة الكبرى، حينما قدّموا، بالمنحى الفوضوي والتخريبي الذي سلكوه، خدمة جليلة الى السلطة، وأظهروها كضحية امام مجموعة مخرّبين، هذه السلطة تكاد تقول لهم «شكراً» لأنّهم منحوها الفرصة من جديد لإعادة التقاط انفاسها وتحصين ذاتها امام ما وصفته بالأساس بـ»حراك من كل واد عصا»!
الثابت في هاتين الصورتين، أنّ السلطة مأزومة، والحراك ايضاً، بفارق أنّ ازمة الحراك – المقصود هنا الحراك الصادق – وما نبت حوله، اكبر بكثير من أزمة السلطة. فبصرف النظر عن الشعارات العالية التي يرفعها، فإنّ هذه الشعارات تفقد وهجها، عندما يتبيّن انّ الارض التي تقوم عليها اصبحت رخوة، وعندما تصبح اولوية حراك الصادقين، إعادة انتاج نفسه بذات الصورة التي قدّمها في 17 تشرين الاول، قبل ان تصبح صورته واحدة من ضمن «ألبوم» صور حراكية اخرى ولدت من أرحام احزاب وطوائف ومذاهب، وتقدّمت عليها الى حدّ تقزيمها. فلا شك انّ مهمة إعادة الإنتاج هذه صعبة جداً.
امّا السلطة، فتشعر انّها تجاوزت القطوع، وما تعتبره وهنًا وارباكاً وتشتّتاً على ضفة الحراك، وفّر لها قوة ومعنويات لأن تتجاوزه، وتشكّل حكومة يرفضها الحراك بكل الوانه، وهي اذ تُدرك انّه في ظلّ الجو الانقسامي الحاد في البلد، يستحيل لها ان تحظى بثقة الداخل بكامله، حتى ولو قدّمت لهذا الداخل المنّ والسلوى كل يوم.
ومن هنا، فإنّ عين السلطة تتجاوز الداخل بكل حراكه وصخبه، وترصد أن يأتيها الغوث من الخارج، الذي من شأنه (أي الغوث الخارجي) ان يردّ الأذى الداخلي عنها، ويُسكت مرابض القصف السياسي عليها. والنتيجة الأولية لهذا الرصد، ايجابية، كما يلخصها اهل السلطة:
– ليونة في الموقف الاميركي حيال الحكومة، مع انّ البعض في لبنان راهنوا على مقاربة اميركية سلبية منها. وهذه الليونة، التي ارتكزت على محاولة توجيه الحكومة الجديدة نحو اجراءات اصلاحية ومكافحة الفساد، تفتح باب المساعدات الدولية للبنان، ستنسحب حتماً وفي السمتقبل المنظور، على مواقف وتوجّهات حلفاء واصدقاء واشنطن في لبنان وخارجه. وينبغي هنا التوقف عند الليونة التي اظهرها رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري، بموقفه الاخير حول اعطاء فرصة للحكومة، والذي افاد بأنّها اذا نجحت ففي ذلك مصلحة للجميع، وان لم تنجح فلكل حادث حديث.
– اطمئنان كلّي للموقف الاوروبي، والذي جرى التعبير عنه عبر حضور الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في المشهد الحكومي، وتأكيده حرص فرنسا على مساعدة لبنان، مع اشارات متتالية بأنّ «سيدر» ما زال ينتظر خطوات الدولة اللبنانية لإفادة لبنان من تقديماته، وكذلك عبر «الغزوة» الديبلوماسية الأوروبية في اتجاه السراي الحكومي، والتعبير امام رئيس الحكومة حسان دياب عن حرص بريطاني وكذلك حرص دول الاتحاد الاوروبي على تقديم كل ما يمنع انهيار لبنان ويساعد في نهوضه.
– اطمئنان للموقف العربي بشكل عام، وثمة إشارات «إيجابية جداً» تلقاها رئيس الحكومة.
– اطمئنان كلّي لموقف البنك الدولي وسائر المؤسسات المالية الدولية، والتي تلقّى منها لبنان في الفترة الاخيرة اشارات جدّية بأنّها تريد ان تقدّم له المساعدة لأنّها لا تريد له ان ينهار.
وثمة خطوات نوعية ومبادرات موعودة ستظهر في هذا السياق وفي مدى غير بعيد، تضاف إلى إنجازات مهمة جداً مرتبطة بملفات كبرى من شأنها أن تنعكس إيجاباً جداً على الاقتصاد اللبناني.. يُفهم من كلام أهل السلطة هنا أنّهم يقصدون الثروة البحرية من النفط والغاز، التي ستطرح في القريب العاجل على بساط البحث بترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل عبر الولايات المتحدة الاميركية.