IMLebanon

يوم تغيّر وجه لبنان

 

 

فَعلتها حكومة الرئيس حسان دياب وقررت تعليق سداد الدين في إجراء غير مسبوق، يطوي حقبة مالية واقتصادية كاملة، ويدشّن أخرى ستكون مغايرة كليّاً عمّا ساد على امتداد عقود.

يحمل قرار الامتناع عن دفع سندات اليوروبوندز من الدلالات والمفاعيل ما يتجاوز ملف الدين في حد ذاته، ليؤشّر الى بداية تحوّل استراتيجي في نمط سلوك الدولة اللبنانية التي لطالما اعتمدت على اقتصاد «لَحس المبرد»، بحيث كانت تمعن في الاستدانة التي تحولت «عقيدة مالية» ثم لا تلبث أن تستهلك معظم إيراداتها في تسديد الديون المتراكمة واللهاث خلفها، وهكذا دواليك، الى ان «فَرم» المبرد كل الاخضر واليابس ووصلَ الى العظم!

 

وبناء عليه، فإنّ مراسم الامتناع عن تسديد سندات اليوروبوندز بَدت في جوهرها أقرب الى «مأتم تشييع» للنموذج الاقتصادي المالي السابق، الذي لم يكن يتجرّأ أحد من قبل على الاعلان رسميّاً عن خبر وفاته. بل انّ احد الوزراء يعتبر انّ هذا النموذج الرَيعي، الذي دفن امس الاول، لن يجد حتى من يَتقبّل التعازي برحيله، بسبب «سمعته السيئة» وما تركه خلفه من مصائب وأزمات على كل المستويات.

 

والمفارقة انّ حكومة التكنوقراط، المصنّفة لدى البعض بأنها ضعيفة ورخوة، هي التي اتخذت القرار الاصعب والاقسى في تاريخ لبنان. صحيح انّ ما فعلته حَظي بغطاء سياسي وازِن منحها الحماية الضرورية، الّا انّ ذلك لا يلغي بصمة رئيسها «الكاميكاز» الذي وقف في الواجهة وعلى خط المواجهة، مُسجّلاً على حكومته سابقة تعليق دفع الدين، بعدما كان في البداية يَتحسّس حيال هذا الاحتمال.

 

وقد اختصرت أوساط داعمة لدياب المعادلة بالآتي: «حسان بوند» في مبارزة مع «اليوروبوند»، وذلك للدلالة على انّ الرجل لديه «ركاب» وانه يملك من «العَضل» ما يسمح له بأن يصمد فوق الحلبة، خلافاً لِما كان يروّجه بعض خصومه بأنه ملاكم من وزن الريشة.

 

واذا كان هناك من يدعو الى عدم الاحتفاء بتعليق سداد الدين، والاستعداد لتلقّي عواقبه السلبية التي ستصيب سمعة لبنان وموقعه في الصميم، الّا انّ الاكيد هو انّ هذا الاجراء يُحاكي نبض الاكثرية الشعبية التي ترفض استخدام بقايا المخزون النقدي من الدولار في دفع سندات اليوروبوندز لدائنين اجانب او محليين، بينما يتم في المقابل إخضاع ودائع المودعين اللبنانيين في المصارف الى التقنين القاسي.

 

وأيّاً يكن الأمر فإنّ ما بعد وَقف تسديد الدين لن يكون كما قبله، في وقت يستمر العمل لإنجاز الخطة الشاملة التي يفترض أن تصبح جاهزة قبل تاريخ انتهاء مهلة الـ100 يوم التي طلبتها الحكومة في بيانها الوزاري لوضع تلك الخطة الانقاذية.

 

وتؤكد شخصية شاركت في إنضاج قرار تعليق الدفع انّ مرحلة الدلع انتهت، «وعلى الجميع ان يعرفوا انّ مرحلة جديدة بدأت بكل ما ستفرضه من خيارات وسلوكيّات غير مألوفة».

 

وتشير تلك الشخصية الى انّ قرار الامتناع عن تسديد مستحقات اليوروبوندز كان صعباً «لكنه في الوقت نفسه كان الشر الذي لا بد منه لتفادي ما هو أسوأ»، معتبرة انّ «الدولة اللبنانية وَجدت نفسها امام خيارين حصراً، فإمّا أن تطلق النار على رأسها من خلال تسديد استحقاق 9 آذار، وبالتالي تعريض مواطنيها لخطر انهيار آخر خطوط الدفاع عن أمنهم الاجتماعي، وإمّا ان تطلق النار على قدمها عبر تعليق السداد مع ما يعنيه ذلك من بقاء فرصة أمامها للعلاج والشفاء ولو انها ستضطر الى استخدام العكاز حتى تنتهي فترة مداواتها».

 

وتكشف الشخصية المطّلعة انّ بعض الدائنين كان قد أبدى نوعاً من المُكابرة في التعاطي مع عزم الحكومة الامتناع عن سداد الدين وأصَرّ على تحصيل جميع مستحقاته، فيما أظهر دائنون آخرون مقداراً مقبولاً من الواقعية والبراغماتية في مقاربة الواقع المُستجِد.

 

وتشير الشخصية إيّاها الى انّ «المطلوب من الجهات الدائنة ان تتواضع بعض الشيء على قاعدة حصر الخسائر، وان تتفهّم الضرورات التي دفعت لبنان الى اتخاذ هذا القرار، علماً انّ الحكومة محتاطة لكل الاحتمالات وتتحسّب لإمكان ان تلجأ جهات أجنبية دائنة الى مقاضاتها دولياً، وهو سيناريو سيتسبّب في «دَربكة قانونية» للدولة اللبنانية ولكن لن تكون له على الأرجح نتائج عملية، لأنّ الاملاك التي قد تكون موضع ملاحقة تحظى بالحصانات الضرورية».

 

وتلفت الشخصية الى انّ قرار تعليق الدفع وما سيليه من خطة شاملة إنما سيؤدي الى تغيير وجه لبنان الاقتصادي والمالي، بعد سنوات طويلة من «التحنيط» المُخالف لشروط الاقتصاد العصري والمنتج، مشدّدة على انّ القوى السياسية يجب ان تدرك انّ لحظة الايفاء بفاتورة الاصلاحات قد حانت، ولم يعد ينفع التمادي في الهروب الى الامام بل الى المجهول».

 

وتعتبر الشخصية، التي شاركَت في «تخمير» خيار تعليق دفع سندات اليوروبوندز، انّ القوى الداخلية ستكون بين حدّين: القبول بالتنازل عن المحميات والمكتسبات الفئوية داخل الدولة في مقابل أن تحمي وجودها ومستقبلها، او المجازفة باحتمال أن ينهار عليها السقف المُتداعي وتخسر كل شيء».

 

وتشير الى أنه بعد وقوع المحظور، المتمثّل في التعثّر المالي للدولة، لم يعد هناك ما يمكن الخوف منه «وعلى الحكومة أن تستكمل كسر تابو الديون بكسر محرّمات مكافحة الفساد وتحقيق الاصلاحات على الصعد كافة».