تخطر على بالي كثيراً أيام الدراسة، وكم كنّا مندفعين لتعلّم كل شيء، وكيف كنّا نتقاتل لنكون من بين الأوائل في الصفّ، كنّا ندرس ونحفظ ونحلم بأن نصبح روّاد فضاء، وأطباء يعالجون الفقراء في أفريقيا، ومهندسين نرسم معالم جديدة لحيّنا المشلّع من الرصاص والشظايا.
تخطر على بالي دروس القراءة والتاريخ التي رسمت لنا لبنان بلد الأبطال والأمجاد والانتصارات، والقصائد التي حفظناها مع إيماءات اليدين لنأخذ علامة أفضل. وكبرنا وحَدّق بنا «وطن النجوم» ولم يذكر من نحن أبداً… حَدّق ووجد ذلك «الفتى الغرير الأرعنا»، الذي كان يحلم من على سفح طبقته الخشبية، قد استيقظ ليكتشف أنه يعيش في «وطن النفايات»، وأنّ يديه مكبّلتان بشهادات معلّقة على الجدران وأحلام نائمة تحت وسادة الزعماء.
هل كان من الضروري أن نكبر؟ هل كان من الضروري أن تتبدّد آمالنا وتتبخّر أحلامنا؟ هل كان من الضروري أن نكتشف أنّ ذلك البلد الذي اكتشفناه خصباً في إنجاب الأبطال والمبدعين قد أصبح عقيماً على دورنا؟
لكن مهلاً، بالطبع كان من الضروري أن نكبر، ولكن لم يكن من المقبول أبداً أن نسمح لزعران الحرب أن يكبروا معنا، لم يكن مقبولاً أن نسمح لإجرامهم وجشعهم وفسادهم أن يكبر أيضاً… كان يجب أن نقتله في مهده أو على مرجوحته.
نحن كبرنا… لكن لماذا كبر إحباطنا وفقرنا؟ ولماذا كبرت الهوّة بيننا وبين فاحشي الثراء؟ لماذا كبرت مصيبة الشباب والشابات إلى هذا الحدّ؟ لماذا كبرنا حتى بتنا نلتقي بالصغار الذين كانوا يلعبون معنا بالأحلام قد كبروا على كوابيس؟ لماذا كبرنا حتى بتنا نرى اليوم خرّيجي مدارس وجامعات، وأمهات حوامل وآباء لا يكبرون أطفالهم سوى بضع سنوات يدورون على حاويات النفايات… يبحثون عن لَحسة حمّص في خبزة، أو قطعة طون منسيّة في علبتها. يتسابقون مع العفن على خيارة أو موزة مقضومة، وعن جراب مثقوب يكلّل إصبع رجلهم بقليل من الحياء، أو يرمون على أكتفاهم قميصاً مرمياً أو حذاء مهترئاً يعيد لهم فتات مشاعر سحيقة من ثياب الشعنينة.
هكذا، وبسحر فاسد، تحوّل اللوح الأخضر الذي كان كثيرون يبنون على لونه الأمل، إلى برميل أخضر يشعرون أمامه بالألم… وهكذا، تحوّلت الكلمات التي كانوا يلتهمونها من على اللوح إلى قضمات ترتجف أصابعهم من التقاطها وتخجل لولا حياء النجاة.
الذين يساعدون الناس المحتاجة بمعونات غذائية أو قسائم شرائية يحرصون على عدم تصوير وجوه المعوزين حفاظاً على كراماتهم التي غدرتها الحياة أو خنقها الإهمال… ولكن، ماذا فعلت يا ترى الحكومات المتعاقبة بذلك الرجل حتى بات لا يستحي من برميل؟ لا يستحي أن يريه وجهه، ويروي عليه قصّته، ويفَضفض له جوعه ووجعه، ويخبر الأكياس الزرقاء عن مشوار الظلم والمذلّة الذي لم يقرأ ببشاعته في كتب القراءة.
ربما ذلك المظلوم لا يملك وقتاً لتذكّر أيام الدراسة ويتحسّر على الأحلام التي ضاعت بين أرجل الزعران… لكنه يتذكّر كل يوم أنّ أكثر ما أنتجه هذا البلد هو النفايات. نفايات على الكراسي، ونفايات في المناصب، ونفايات في الانتخابات، ونفايات في الأمن، ونفايات في العباءات المبجّلة، ونفايات خلف الميكروفونات وعلى المنابر، ونفايات في مواكب السيارات… ونفايات الأغنياء المتبقّية من صفقات وتلزيمات واحتكارات، نفايات التي لا يجد الأغنياء وقتاً لالتقاطها وطمرها وتدويرها.
هو لا يستحي من برميل، وربما ضحّى بكثير من مبادئه أمام الحنون الأخضر من أجل لقمة ذليلة يأكلها بالحلال… لكن عندما سيقف الحقّ أمام الخضراء الخالدة، سيمتلئ البرميل بـ«براميل» الفساد وبنفايات الحرب، وستنظف الكراسي والمناصب، وستمتلئ بطون الجائعين والثوّار غضباً.