IMLebanon

لبنان الغد

 

منذ إعلان “دولة لبنان الكبير” في 1 أيلول 1920 وإعلان استقلال لبنان عام 1943 واللبنانيّون يحلمون بلبنان الغد، لبنان الوطن الذي يعيش فيه اللبنانيّون جميعاً في دولة المواطنة لا دولة المزارع، وفي الدولة الوطنية الجامعة لا دولة المحاصصة والفساد والافساد، ولا دويلات المذاهب والطوائف المتطلّعة دوماً الى خارج الحدود للاستقواء بهذه الدولة او تلك، وفرض معادلات داخليّة لتغليب فئة على فئة. وها هو لبنان يستعد مع بداية أيلول عام 2020 للاحتفال بمئة عام على ولادة لبنان الكبير وعاصمته سيّدة العواصم بيروت.

 

والحلم ما زال غاية ينشدها كل فريق على مقاس مصالحه، ولا زال الشعب اللبناني ضحيّة التطلّعات نحو خارج الحدود بل خارج المنطقة العربية.

 

لقد توافق اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، سواء عام 1920 أو عام 1943 على إعلان “دولة لبنان الكبير”. وبالتالي، قيام الجمهوريّة بحيث تكون الدولة اللبنانيّة دولة وطنيّة مدنيّة جامعة تحترم المعتقدات الدينيّة المتنوّعة لمواطنيها، مسلمين كانوا أو مسيحيّين. فالدولة الوطنيّة هي المظلّة الواقية والحافِظة لحقوق المواطنين جميعاً، والآن قبَيل احتفال لبنان بمئة عام على ولادته من رحم التطلّع نحو وحدة بلاد العرب او اتحادهم، هل من الممكن أن يتحقّق حلم اللبنانيين بقيام دولتهم الوطنيّة الجامعة؟ أم انّ قدر اللبنانيين أن يبقوا في أضغاث أحلامهم امام وباء المذهبيّات والطوائفيّات المتعملقة على حساب قيام الدولة الوطنيّة الجامعة والمتعاونة مع أشقائها العرب والرافضة فكرة إقامة الدولة التلموديّة الصهيونيّة على أرض فلسطين العربيّة المباركة؟

 

عاش لبنان محنة الحروب العبثيّة على أرضه من 1975 الى 1990، واستفاد من الاقتتال الداخلي وهذه الحروب العدو الصهيوني وكل القوى المتطلّعة نحو المزيد من تمديد نفوذها، وفي فترة من الزمن تحوّل لبنان، المُثخن بجروحه، الى ورقة سياسيّة في سوق النخاسة الاقليميّة والدوليّة، وتصارَعت عليه العديد من الدول مُستغلّة الخلافات الداخلية بين اللبنانيين على الهويّة والدور ورسالة لبنان في شرقنا العربي، لتسديد فواتيرها في هذا الملف الإقليمي او ذاك، الى أن توافق اللبنانيّون بدعم عربي ودولي على (عقد اجتماعي) جديد أُقرّ برعاية المملكة العربية السعودية ودعمها مع بعض الاشقاء العرب، وعرف هذا العقد الاجتماعي الجديد (بـ وثيقة الطائف) التي أنهت الاقتتال بين اللبنانيين، وأوقفت حروب الآخرين على الساحة اللبنانيّة وأذنت بإعادة الاعمار وقيام الدولة الوطنيّة الجامعة بمؤسّساتها الشرعية، ولا نريد ان ندخل في تسمية الأطراف والعوائق التي حالت محليّاً واقليميّاً دون تطبيق كل بنود وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ”اتفاق الطائف”، ولكنّ السؤال الذي يجب ان نطرحه الآن: أما آن لنا كلبنانيين، مسلمين ومسيحيين أحزاباً وتيارات وحركات ومؤسسات دينية واجتماعية واقتصادية واعلامية، أن نتوقّف قليلاً ونتعلّم من دروس الماضي الذي كَلّف لبنان ما لا يقل عن ثلاثمئة ألف بين قتيل وجريح وما رافَق ذلك من دمار ودموع وآلام وجروح؟ أما آن لنا أن نبني دولة المواطنة، الدولة التي لا سيادة على ارضها الّا سيادتها، ولا سلاحاً إلّا سلاحها، وان لا نفوذ لقوى إقليميّة او دولية على ارضها الّا نفوذ شعبها وحكمها وحكومتها؟

 

لبنان هذا الذي هو وطن التنوّع والتعايش والتلاقي بين اتباع الإسلام والمسيحيّة لا يتحمّل الدخول في محاور إقليمية او دولية، ولا يتحمل إقامة دولة اسلاميّة او مسيحيّة، وبالتالي لا “دولة الخلافة”، ولا “دولة ولاية الفقيه”.

 

لبنان الغد لا يُبنى على مقاس مصالح حزب عابر للحدود والجغرافيا او مصالح تيّار او حركة، سواء كانت هذه المصالح محليّة او اقليمية. لبنان الغد لا يبنى إلّا بقيام الدولة الوطنيّة الجامعة التي لا مكان فيها للكهوف المذهبيّة والمستنقعات الطائفيّة والعقليّة المناطقيّة. لبنان الغد بحاجة لحكّام رجال دولة يعطون ولا يأخذون، عابرون للطوائف والمذاهب والمناطق، لا فارق بين مواطن وآخر إلّا بمقدار ولائه للوطن وخدمته لمصالح الناس، لا يمكن أن نبني لبنان الغد وهناك فريق من اللبنانيين لديه سياسة قتاليّة خاصّة به يقاتل خارج الحدود ضمن مصالح إقليميّة تتعارض مع مصلحة لبنان وعلاقاته مع أشقائه العرب. هل يمكن لنا ان نبني لبنان الغد بعيداً عن محيطه العربي بل ومعاداة العرب؟ وهل يمكن ان نبني لبنان الغد على مقاس مصلحة واستراتيجيّة حزب ما أو تيّار ما؟ وهذا يعني انّ حلم إقامة الدولة الوطنيّة الجامعة لا يمكن ان يتحقّق، في ظلّ هذه التراجيديا العابثة المستمرة منذ ولادة لبنان الكبير.

 

لبنان الغد الذي نحلم به، ونحن الجيل الذي عشنا ويلات الاقتتال الداخلي وحروب الميليشيات على الساحة اللبنانية، في أزقة بيروت وشوارعها، وكل الحروب الإقليمية الأخرى، منذ عام 1975 حتى “اتفاق الطائف”.

 

لا يمكن أن نبني لبنان الغد، إلّا بالالتزام بالدستور وتقوية الدولة ومؤسّساتها، والاقلاع عن ثقافة الغلبة والالغاء والاستقواء، وان تكون الأحزاب والحركات في خدمة الدولة والناس، لا ان تكون الدولة في خدمتهم ليعيش الناس في أمان ولكي تزدهر ثقافة المواطنة لا ثقافة الإلغاء والغلبة والاستقواء بسلاحٍ من هنا، وسلاح من هناك، ليعود لبنان سيّداً حرّاً عربياً مستقلاً، كما أراده مؤسسوه، رجال لبنان واستقلاله.