بمعزل عن التطورات المتصلة بمجموعة الازمات النقدية والمالية والحكومية التي تعصف بلبنان، تتعزّز الفرضيات حول مدى تطور الاوضاع إقليمياً ودولياً في منطقة ملتهبة، توحدت فيها بقرار منفرد الساحات اللبنانية مع السورية والعراقية، وهو ما دفعَ بديبلوماسي الى الاعتقاد انّ لبنان بذلك يمشي على «درب الفيلة» في حرب استعرت لإحياء مجموعة من الأمبراطوريات. فما الذي يقود الى هذا السيناريو؟
مِن نافل القول انّ ما يجري على الساحة اللبنانية ليس بإدارة لبنانية بحتة، فقد باتت الساحة اللبنانية محكومة بسلسلة التطورات الإقليمية والدولية الدراماتيكية التي تحولت فيها الساحة اللبنانية كما جيرانها في سوريا والعراق مسرحاً لها. فالمساعي التي بذلت في الماضي لإبقاء الساحة اللبنانية بعيدة عن «بحور الدم» التي تجري في سوريا والعراق انهارت بنحو مُتسارع في سنوات قليلة تُقاس على مراحل بحجم المتغيّرات التي طرأت على الساحة اللبنانية منذ انتخاب الرئيس العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، تزامناً مع عقد التسوية السياسية في العام 2016 والتي قادت تلقائياً الى الانتخابات النيابية في العام 2018 وما وَلّدته من أكثرية نيابية جديدة انعكست لاحقاً على شكل الحكومات المتعاقبة وموازين القوى فيها.
ليس في ما سبق ما يوحي بالجديد، ففي الصالونات السياسية كلام كثير عن الثمن الذي على لبنان دفعه بعدما باتت العودة الى مرحلة «النأي بالنفس» استجداء للغطاء الدولي الذي ظَلّل لبنان لفترة طويلة. وهو بات حلماً بعيد المنال بعدما تَبخّرت مقوماته تدريجاً بفِعل التحولات السياسية على الساحة اللبنانية وتماهي الحكم بديبلوماسيته وتوجّهاته العريضة مع محور الممانعة، الذي وضع لبنان وبيروت تحديداً على لائحة العواصم العربية الخمسة التي تسيطر عليها ايران على رغم من محاولات التجميل التي باءت كلها بالفشل، الى أن بلغت الذروة في اعتبار «حكومة مواجهة التحديات» هي «حكومة «حزب الله» في رأي عدد من العواصم العربية والغربية، ولا سيما منها الدول ذات الاقتصادات الصاعدة والمانحة.
وعليه، يسود الاعتقاد لدى مراجع ديبلوماسية وسياسية مطّلعة، انّ ما بلغته الازمة النقدية والمالية والتعثر في معالجتها أثبت بما لا يرقى اليه الشك مرة جديدة، انّ ما انتهت اليه هذه التحولات ليس غريباً لا بل كانت متوقعة ولم تشكل أمراً مفاجئاً. فقد قادت السياسات الديبلوماسية اللبنانية ومعها القرارات الحكومية طوال السنوات الثلاث الماضية الى الحصار الديبلوماسي والمالي الذي يتعرّض له لبنان. وزاد في الطين بلّة ان لجأ المتمولون الكبار من مسؤولين وأصدقاء لأهل الحكم الى تحويل أموالهم الى الخارج لتفرغ صناديق المصارف من العملات الصعبة وليبدأ عصر التقنين فيها. فنحن نعيش في بلد بلغت فيه نسبة الدولرة في اقتصاده ما يقارب الـ 79 % من الكتلة النقدية المتداولة فيه. وهو ما عزّز الفوارق في شكل لا سابق له بين حجم واردات الخزينة ومصاريف الدولة بنسبة زادت على 80 %، والتي زاد منها فقدان المساعدات وهروب الاستثمارات الاجنبية الغربية كما العربية والخليجية منها.
وعلى هذه الخلفيات، تتطلّع المراجع الديبلوماسية الى ما يجري من مناكفات سياسية على الساحة اللبنانية، فتضعها من ضمن المواجهات الدائرة بالإنابة عن أبطال حرب المحاور المتطاحنة في المنطقة، وخصوصاً بين محور «الممانعة» والمحور الذي تقوده موسكو بالتنسيق مع طهران وأنقرة في مواجهة الحلف الدولي الذي تديره واشنطن ومعها عواصم عربية وخليجية تحديداً لفترة من الزمن، قبل ان تتفرّد قبل عامين بإدارته على الساحة السورية والمنطقة بعد انسحاب الدول الأربعين الاوروبية والأميركية والخليجية منه، وبروز الدور التركي منفرداً من بين مجموعة الدول هذه، التي كانت تشارك من ضمن الحلف الدولي على الارهاب الذي نشأ عقب «إعلان جدة» في 11 ايلول 2014.
وتعترف المراجع الديبلوماسية عينها انّ النزاع الذي تعددت وجوهه المالية والاقتصادية والدبلوماسية في الفترة الأخيرة ما بين لبنان وسوريا والعراق مَردّه الى نجاح محور الممانعة في توحيد الساحات الثلاث في المواجهة المحتدمة التي تخوضها على الخلفية عينها، وما زالت مظهراً من مظاهر المعركة التي تَجلّت في النزاع السياسي والديبلوماسي والعسكري المحتدم في ما بينها. وان صَحّت السيناريوهات التي تواكب الضغوط عند بدء تطبيق «قانون قيصر» بعد 3 سنوات على وضعه، فإنّ مصير إحداها رَهن بنتائج المفاوضات الصعبة الدائرة بين واشنطن وموسكو وانقرة وطهران من دون إغفال حضور تل ابيب على خط المشاريع التي تخضع لها المنطقة بما تحمله من خيارات استراتيجية نفطية ومالية وعسكرية لم تتّضِح نتائجها بعد والمدى الذي يمكن ان تتطور في اتجاهه.
ووسط الإجماع على خطورة المرحلة وما يعوق البحث عن أي مخرج للمأزق القائم في لبنان وما يمكن ان تؤدي اليه اي مشاريع حلول، فإنّ ما تشهده الساحة اللبنانية من مخاض لا يبدو بعيداً عن مجريات المواجهات التي جنّدت لها مختلف القدرات العسكرية والديبلوماسية والاقتصادية الخارقة التي تمتلكها الدول المنخرطة فيها. وهي دول تمتلك اقتصادات قوية، ومن الصعب جداً لا بل من المستحيل مقارنتها بالقدرات اللبنانية الهزيلة. وعليه، كان الانهيار الكبير في لبنان الذي ما زلنا نشهد فصولاً متتالية منه من دون إدراك القعر السحيق الذي يمكن أن تقودنا اليه انعكاساته.
على هذه الخلفيات، تقرّ المراجع الديبلوماسية بعبثية المواجهات الدائرة في لبنان بمختلف وجوهها ولا سيما منها الديبلوماسية. وان كان «حزب الله» المنخرط اللبناني الوحيد في ما يجري في المنطقة، يظهر واضحاً انّ الحكم والحكومة في غربة عمّا يجري فيها. ليس لأنهما لا يدركان حجم الأزمة بتعقيداتها الخارجية، بل لأنهما لا يستطيعان التأثير فيها بما يخدم الحل في لبنان. فقد تَسلّلت الى الساحة اللبنانية كل عناصر التفجير التي وضعت لبنان على خط الزلازل، وسط العجز الكبير عن توافر اي حلّ لِما يجري وطريقة الخروج من المأزق الكبير.
وختاماً، لا بد من الإشارة الى انّ كل هذه العناصر تقود بالمراجع الديبلوماسية الى اعتبار انّ الحكم في لبنان قادَ اللبنانيين على «درب الفيلة» التي يتنازَع فيها الساعون الى إحياء الأمبراطوريات القديمة الفارسية منها كما العثمانية، وما بينهما سَعي موسكو الى استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط. وهو ما يضع لبنان بإرداة بعض بنيه او من دونها تحت أقدام هؤلاء، وما على اللبنانيين سوى عد «الدعسات» التي يتعرّضون لها من دون القدرة على النجاة من اي منها والى حين لا يستطيع أحد تقديره.