ة
يدخل لبنان فعلياً مرحلة الدوامة الصعبة، التي تعني باختصار انشغال العواصم المعنية عنه، ودخوله هو في نفق الأزمة بكل اتجاهاتها الحياتية والمالية. عادة يمثّل شهر آب المرحلة التي تنصرف فيها كل الدوائر الديبلوماسية والسياسية الغربية الى استراحة تستعد فيها للعودة الخريفية الى العمل. وهذا ليس أمراً يُستخف به دولياً، لأنه غالباً ما كان ينحسر العمل الديبلوماسي والسياسي في هذه المرحلة، فكيف الآن، في عزّ الاهتمام الدولي بالاستعداد لموجة كورونا الثانية، وتبعاتها الاقتصادية الداخلية، وانهماك واشنطن بالانتخابات الرئاسية؟
من هنا، ووسط الانشغالات الدولية، كان يفترض أن يلتقط لبنان الفرصة التي قدمها له صندوق النقد ومن وراءه، والسير بخطى سريعة الى مقاربة المفاوضات من زاوية عملية، تسريعاً لحلول ما قد تمثل باب الفرج الاقتصادي، بدل إطلاق النار عليها أو محاصرتها من جانب لجان نيابية وحاكم مصرف لبنان والمصارف. لأن هذه المفاوضات هي الباب الوحيد الذي لا يزال مفتوحاً أمام لبنان، فيما صندوق النقد يدخل هو الآخر في استراحة، قبل أن تقرر السلطة اللبنانية جدياً حسم قرارها، بدل إلقاء الاتهامات، كما فعل أمس رئيس الحكومة حسان دياب. فترف التعامل مع الصندوق، والعواصم المعنية، والتمهل في المفاوضات والأخذ والرد، وتوجيه الانتقادات، والسماح لحاكم مصرف لبنان بأن يضاعف من سطوته على مفاوضات يفترض أن تكون من دولة الى «دول» عبر صندوق النقد، لا من شخص الى صندوق دولي بهذا الحجم، لا يتطابق مع واقع الانهيار الداخلي المتمادي. ولعل مقاربة الحكومة والسلطة في شكل عام، لانهيار شبكات الكهرباء والمياه وأزمة المحروقات والمصارف المتمادية من دون حياء في التضييق على اللبنانيين، انعكاس لغياب الجدية والمسؤولية في مواجهة الأزمات المتتالية، فيما يطلب لبنان مساعدة هذه الدول لمواجهة أزماته. فإذا كان لبنان الرسمي قادراً على التكيّف مع هذه الأزمات من دون مدّ يده لـ«يشحذ» أموالاً ومساعدات ودعماً، فليضع خطته قيد التنفيذ للخروج من الهاوية التي أصبح فيها. لكنه في الوقت الذي لا يزال يصرّ فيه على طلب الإنقاذ، فإنه يتعامل مع الدول المعنية بأكثر قدر من اللامبالاة والتمهل اللذين أفقداه تلقائياً دعمها السريع، ووقوفها حالياً موقف المتفرج.
فعدا عن المقاربة الأميركية الحادة من وزير الخارجية الاميركي مارك بومبيو وما نقلته السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا من تحذيرات في اجتماعاتها مع المسؤولين اللبنانيين، فإن الاميركيين منكفئون عن الوضع اللبناني. ما بعثوا به من رسائل كان كافياً بالنسبة اليهم، ولن يتحقق أي خرق عملي لإنقاذ الوضع بحده الأدنى، قبل نضوج التحرك على الخط الأميركي – الإيراني، الذي لم يسجل أي تطور إيجابي. لا بل إن الجمود الحالي على هذا الخط انعكس حكماً على كل المقاربات الدولية والعربية، فتوقفت تلقائياً كل الخطوات لإنتاج حلول للبنان ولو ظرفية. استطراداً، جاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، كخرطوشة فرنسية أخيرة حيال لبنان الذي لم يتعامل معها على قدر جديتها وما تحمله من خلفيات تتعلق بالدور الفرنسي ومن ورائه الأوروبي والأميركي والخليجي. بل حوّل الأنظار عن مسؤولية لبنانية في ما يجري داخلياً، ورمى الاتهامات على هذه الدول لإحجامها عن مساعدته. بين كل هذه المقاربات، يحاول البعض النفاذ ببعض الخطوات الدولية والاستعانة بها في ملفات مصيرية، لكنها لن تكون كافية لتشكيل مظلة عامة فوق الأزمة الراهنة. ففي الآونة الأخيرة، جرى تنشيط الكلام عن الترسيم الحدودي البحري، وكأنه، بحسب أوساط سياسية، يهدف الى تحقيق خرق ما للجدار الأميركي ومحاولة لبنانية لإعادة تفعيل الاتصال من بعض القوى السياسية مع الديبلوماسية الاميركية، ولا سيما من زاوية الموقع الذي يحتله الموفد الاميركي ديفيد شينكر. لكن المحاولة لا تزال من دون جواب أميركي واضح، لأن المطلوب من هذه القوى أكثر مما تفترضه. وبعد تطورات الجنوب أول من أمس، أعاد لبنان التركيز على الجانب الدولي من مراعاة الأمم المتحدة لوضع القوات الدولية والتمسك بالقرار 1701، النقطة التي تقف فرنسا فيها الى جانبه كما أبلغه وزير خارجيتها. وهذا مسار له حيثياته بأبعد من مجرد موقف حكومي. لكن أبعد من ذلك، لا يملك لبنان فعلياً أي أوراق تمكّنه من أن يعيد تواصله مع هذه الدول التي أعادت جدولة أولوياتها، وهو ليس منها في الوقت الراهن. وهذا يؤدي الى خاتمة سيّئة في مرحلة حساسة، لأن لبنان لم يستوعب بعد جدياً أنه غير قادر على استجلاب مساعدة دولية قيّمة له، ولم يتبق له إلا أن يحاول صرف أنظار اللبنانيين عن الأزمات الحادة بوباء كورونا مرة أخرى. وقد يكون الهروب الى إقفال البلد، (والمصارف أول المسارعين الى الإقفال)، في هذه المرحلة أهون الشرور، فيغرق اللبنانيون في متاهة المرض، من دون الالتفات الى حقيقة واقعهم المر، كما حصل بعد تظاهرات الخريف الماضي.