يُعاني جيلنا الكثير لإقناع أبنائنا بأنّ تعلّقنا بلبنان ليس عبثاً، ولا هو نزوة، ولا مجرّد تشبّث أعشى. فعندما يسألني أحد أبنائي: لماذا أنت مغرم بلبنان؟
ويُضيف: هذا الوطن لا يُقدّم شيئاً لأبنائه، سوى الهجرة والتشتّت.
وهو بلدٌ تتراكم النفايات في شوارعه والأزقّة.
وتُقطع فيه الكهرباء فتسود العتمة.
ويعمّه الفساد.
ويعَيَّن الموظّفون على قاعدة الولاء. ولكن ليس الولاء له إنّما للزعيم، ولرئيس الميلشيا، ولصاحب المقام…
والإدارة فاشلة.
والمؤسسات شكلية.
ومجلس النواب والحكومة مُتداخلان. فالحكومات تُشكَّل من النواب أو مَن يُعيّنهم رؤساء الكتل والأحزاب فلا رقابة ولا من يُراقب.
والفوضى عارمة … فالنظام وجهة نظر. والقوانين والأنظمة ليست سوى حبر على ورق.
والدين والطائفة والمذهب سُلع تجارية تُستَحضَر عند الضرورة، ليست الضرورة الوطنية إنما ضرورة مصلحة الفاسدين.
ولا يتوقّف إبني عن مسلسل الأسئلة (…). وكنت دائماً أجيب: أنا مُغرم بوطن كان زينة البلدان ليس في الإقليم وحسب بل في العالم أيضاً. وما ذكرتَ من سلبيّات، لم نكن نعرف معظمها. اليوم نحن نستجرّ بعضاً من الكهرباء من البواخر وبعضاً من سوريا بينما كان لبنان يمُدّ سوريا بالتيار الكهربائي. والموظفون كانوا يُعيَّنون ربّما على أساس التوازن ولكنّ الأفرقاء كانوا يقدّمون نُخبة النُخبة للوظيفة التي لم يكن شرطها الولاء للزعيم. والنفايات لم نكن نراها في الشوارع حتّى أيّام مكنسة البلّان البدائية. والحكومات كانت تُؤلّف على قاعدة الموالاة والمعارضة. وإسمَع جيّداً يا بُني إنّ البلد الذي يجوع أبناؤه اليوم، كان مُصنّفاً (عام 1963 على سبيل المثال لا الحصر) البلد الرابع إزدهاراً في العالم بعد سويسرا ثمّ ألمانيا الغربيّة آنذاك ومن ثمّ الولايات المتحدة الأميركية في المركز الثالث. وأمضي شارحاً الكثير عن معالم لبنان الطبيعية والتاريخية والإجتماعية والعلمية والثقافية والسياحية والطبية والإستشفائية والتعليمية والصحافية …
وأختُم مجيباً فلبنان يا أبنائي الأحباء الذي عشقناه ليس هذا البلد الهجين الذي شاء سوء طالعكم مرّتين: مرّة أولى ألّا تعرفوه كما كان، ومرّة ثانية أن تعيشوا هذا النموذج لبلد كان عملاقاً فصار مسخاً.