نعم انا لبناني وهنا ولدت ولعبت وحلمت، وهنا قرأت أحرفي الأولى وحفظت وأنشدت (كلنا للوطن)، وهنا تعرفت على ذاتي ورافقت وصادقت، وهنا سمعت خفقان قلبي وشعرت بالحب والأمل، وهنا كتبت رسالتي الأولى وطبعت قبلتي الأولى، وهنا حزنت وفرحت وسلكت دروب عذاباتي القصيرة والطويلة، وهنا سمعت أغنيتي الأولى وذرفت دمعتي الأولى، وهنا التقيت أحبابي وحبيباتي وتعرفت على أوهامي وأشجاني، وهنا تيقنت بأني لبناني.
نعم أنا لبناني في أعماقي وأشواقي وحلي وترحالي، وأنا لبناني أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً ولا شيء عندي أغلى من وطني وهويتي رغم رحلتي الطويلة مع الحزن والخيبة والتوهان بين الأزقة والأرياف والمدن والجبال ورغم مراراتي وأوجاعي، وأنا لبناني وفوق طوائفكم ومذاهبكم وأحزابكم ومليشياتكم ومناصبكم ومجازركم، ومياه الينابيع العذبة تسري في عروقي وأشجار الحور والصفصاف تسمع همس وجداني.
نعم أنا لبناني وأعرف من قتل انسبائي ورفاقي وحبيباتي، وأعرف من أحرق دفاتري وعبث بأشيائي، ومن الذين باعوا الوطن للقاصي والداني، وقطّعوا الطرقات ونهبوا الأسواق وهجروا رفاق الطفولة والصبا وتنكروا للخبز والملح وحسن الجوار، وأعرف الذين تاجروا بالمبادئ والعقائد والمذاهب والأديان، وأعرف من أشاع الخوف والرعب والجهل والتعصب وبدد السكينة والمودة والأمل لدى اجيال واجيال تجرعت معهم مرارات العنف والأحقاد.
نعم أنا لبناني وعندي حنين لمواسم البدار والحصاد وإلى عناق أغمار سنابل القمح فوق بيادر الصبر والشقاء، وأنا أعرف متى تزهر الأشجار ومتى تقطف الثمار، ولا تزال تهز أعماقي مواويل النوى والمعنى وزغاريد الأفراح والعتابا والزجل التلقائي، وأنا لبناني هزمت في وطني وتمزقت أحلامي واحترقت مدني وأريافي وتقطعت أوصالي على خطوط الذل وأعتاب الميليشيات والمخابرات، وشهدت مرات ومرات كيف اغتصبت عفة لبنانيتي في اروقة السفارات.
نعم أنا لبناني وخانتني العروبة والقومية والأممية والإنسانية والمدنية وأحزاب اليمين واليسار والمقاومات الفلسطينية واللبنانية والعربية والإسلامية، وأنا لبناني تركت ومواطنيتي وحيداً أواجه المصير الأسود مع السلاح والسفاحين والقناصين والمحتلين والأوصياء وتجار الوطنيات والنضالات، وأنا لبناني وأعرفهم فردا فردا وجماعة جماعة وسفارة سفارة وعصابة عصابة، وأعرف ما فعلوا وما نهبوا ومن والوا ومن خانوا ومن باعوا ومن اشتروا ومن انتخبوا ومن عزلوا ومن قتلوا وكيف تواطؤا وكيف استباحوا المحرمات وكيف تمتعوا واغتصبوا وكيف عبدوا السلطة وكفروا بالوطن وما زالوا.
نعم أنا لبناني ولا أثق بالرئاسات الحالية ولا بالرؤساء السابقين، ولا أثق بأمراء الحرب وأحزابهم وتياراتهم وتحالفاتهم الرقمية، ولا أثق بأصحاب الطموحات الأنانية والانتماءات الظرفية، ولا أثق باتباع السفارات والمخابرات، ولا أثق بالثورات الموسمية، ولا أثق بالمغردين والمغردات والبطولات الإنشائية، ولا أثق بالمؤسسات الإعلامية، ولا أثق بحكومة الاختصاصيين، ولا أثق بحكومة المستقلين، ولا أثق بالحكومة الحيادية، ولا أثق بحكومات الوحدة الوطنية الكارثية.
نعم أنا لبناني ومثلي الملايين ممن تكسرت على أجسادهم نِصال الأحقاد والنزاعات على نِصال الخيانات والمتاجرات والشطارات، حتى بتنا كالموتى الأحياء وكالأحرار تحت العبودية تحاصرنا الأفكار العدمية ونشعر بحنين شديد إلى قامات وطنية كالذين امتلكوا شجاعة إشهار حبهم ووفائهم للبنانهم، وخافوا على مستقبل أجيالهم بكل وطنية وكبرياء واستحقوا ثقة أبناء وطنهم، وسكنوا الوجدان بعد اغتيالهم وانضمامهم إلى رموز تراجيديا التجربة الوطنية اللبنانية من الرؤساء والمرجعيات الروحية والشخصيات الإعلامية والسياسية والقيادية.
نعم أنا لبناني ولا أثق… لا أثق… لا أثق.