سبقَ في مراتٍ كثيرة أن جرى التعامل مع لبنان كما يتمُّ التعامل مع بلد مخطوف. ومثل رهينة تنتظر من يدفع مقابل إطلاق سراحِها، كانت الحكومات اللبنانية في السنوات الأخيرة مكبَّلة بالهيمنة على قراراتها والتهديد المستمر بإسقاطها، وذلك بقوة «الثلث المعطل»، الذي كان سيفُه جاهزاً عندما لا تلتقي القرارات الحكومية مع مصالح الخاطفين، فيقدمون على إرغام رئيس الحكومة على الاستقالة.
لم يكن القرار الحكومي وحده في دائرة الارتهان. الحدود الجنوبية كانت ولا تزال فالتة، خارج سلطة الدولة وقرارها، ومعرَّضة في أي وقت يختاره «حزب الله» لعمل حربي، كما حصل في عام 2006، وتكون الحكومة آخر العارفين. وإلى جانب كل ذلك، وزارات مخترقة ومفلسة نتيجة هيمنة المصالح الخاصة على مصلحة الدولة وأموال الناس.
أسلوب الخطف ليس إذن بدعة جديدة. منذ الثمانينات فعل فعله بحق الرهائن الأجانب وكان مجزياً، سواء لمصلحة «الوسيط السوري» في ذلك الوقت، أو لمصلحة التنظيمات اللبنانية (التي كانت الجنين الذي أصبح يتمثل اليوم في القوى الفاعلة). وجدت تلك التنظيمات أنَّ عمليات الخطف أسلوبٌ مناسبٌ للرد على السياسات الغربية التي لا تتَّفق مع مصالحها، فكان الصحافيون وحتى المدنيون الغربيون ضحايا ذلك الأسلوب في التعامل، الذي جعل صورة البلد فاقعة ومنفّرة لمن عرفوه في مراحل سابقة كانت أكثر أماناً.
لكن الخطف هذه المرة جاء في ظروف استثنائية. كما أنَّه صار موجهاً ضد مصالح اللبنانيين. فالبلد المنهار الذي يسعى أهله وراء أي قشة للخلاص، كان ينتظر بصيصَ أمل من أي نافذة. وكان متوقعاً أن يكون سياسيو البلد حريصين على مواطنيهم، بقدر حرص رئيس فرنسا على الأقل. لكن، جاء إصرار «الثنائي الشيعي» في هذا الظرف على التمسك بالحصول على وزارة المالية، ليضع البلد كلَّه في موضع الرهينة ضحية هذا الإصرار: إما أن تقبلوا بشرطنا الذي لا تراجع عنه، وإلا لا حكومة، وفي تهديد أكثر وضوحاً: حاولوا أن تشكلوا الحكومة من دوننا…
لم تكن المسألة هي مسألة «الميثاقية». هذه البدعة الجديدة التي حوَّلت المواقع الكبرى إلى غنائم تتقاسمها الطوائف. ولم تكن المسألة أيضاً هي الخلاف على طائفة وزير المالية. فقد عُرضت اقتراحات، من بينها أن يتم اختيار الوزير على القاعدة التي تمَّ الاتفاق عليها، باستبعاد التمثيل الحزبي عن هذه الحكومة، غير أنه لم يكن مقبولاً عند «الثنائي» سوى أن يسمي هو هذا الوزير، أو أن «يسمح» باختياره من ضمن لائحة أسماء يضعها هو.
لا جديدَ في هذا الأمر. بل هو يؤكد المعروف عن هيمنة الطائفة الشيعية على «بيئتها». هيمنة ينكرها قادة «حزب الله» وحركة «امل»، ولكن عندما يأتي زمن تجربة مشاعرهم «الديمقراطية»، تسقط عند أول امتحان، سواء كان ذلك الامتحان في الانتخابات النيابية، حيث «الوفاء للمقاومة» يحول دون تجرؤ أي سياسي شيعي على إعلان ترشيحه؛ إذ سيلاحقه التصنيف في خانة «عديمي الوفاء»، أو إذا كان الامتحان في المناصب الوزارية، حيث شرط الولاء للزعيم هو تذكرة الدخول الوحيدة المقبولة إلى جنة الحكومة، وما توفره من حصانات وامتيازات وثروات.
رغم واقع هذه الهيمنة على قرار الطائفة الشيعية، وامتداداً إلى معظم القرارات الحكومية، كان مستغرباً أن يدافع «الثنائي الشيعي» عن مطالبته الحصرية بوزارة المالية، بحجة ضرورة مشاركته في القرارات الحكومية، في حين الكل يعرف أنه المرجع الأخير الذي تقف على خاطره كل تلك القرارات، إضافة بالطبع إلى النفوذ الذي يمارسه الرئيس نبيه بري.
يقول متابعون لبنانيون إن تصلب «الثنائي الشيعي» حيال تمسكه بتسمية وزير المالية كان مخالفاً لتعهدات اعطيت للرئيس الفرنسي خلال زيارته إلى بيروت، وجاء هذا التصلب رداً على العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على الوزير السابق علي حسن خليل، «المعاون السياسي» للرئيس نبيه بري. إذا صحَّ هذا الربط، فإنه يؤكد ما سبق قوله من أخذ البلد كله رهينة لمصلحة أحد أحزابه أو قواه السياسية، أو حتى في هذه الحالة لمصلحة أحد أفراد هذه القوى.
إنه منطق الاستقواء على الدولة وعلى حكومتها، الذي يظهر في مجالات كثيرة، ويحول دون قيام دولة بالمعنى الحقيقي الذي تقوم الدول على أساسه، وخصوصاً على قاعدة المساواة بين المواطنين، بمعنى ألا يكون في البلد مواطنون من الدرجة الأولى… وآخرون من الدرجة العاشرة.
أسلوب الاستقواء والهيمنة هذا لا يقتصر على الحقائب والمواقع التي يعتبر «الثنائي الشيعي» إنها من حقوقه. صار هذا المنطق يفرض نفسه على المواقع الأخرى في الدولة كذلك.
تمكن «حزب الله» من التحكم في موقع رئاسة الجمهورية مستخدماً هذا الأسلوب. وفي ظل «التفاهم» مع الرئيس ميشال عون و«التيار الوطني الحر» لم يجد الحزب ما يحول دون تعطيل الانتخابات الرئاسية سنتين ونصف السنة، مشترطاً عدم الإفراج عنها قبل أن ينصاع المعترضون لرغبته.
طبعاً كان هناك شركاء آخرون في تلك المهمة التي أفضت إلى الانصياع لإرادة «حزب الله». وأكثرهم يشعرون بالندم اليوم على قرارهم في ذلك الحين.
يبرّر «حزب الله» دعمه للرئيس ميشال عون بأنَّه كان الرجل الأكثر تمثيلاً لطائفته. وهو التبرير نفسه الذي يبرر به أيضا بالشراكة مع حركة «أمل» حصرية تمثيل الطائفة الشيعية. لكن هذه «القوة» هي نتيجة هيمنة سلاح الحزب عندما يتعلق الأمر بمناطقه، أما فيما يتعلق بعون، فـ«القوة» هي نتيجة قانون انتخابات ملتبس في تمثيله الحقيقي للناخبين، ونتيجة تعطيل قسري لعملية الانتخابات الرئاسية، كما سبق.
وبالطبع لا يمانع «حزب الله» أو حركة «امل» أن يكون رئيس الحكومة السنّي هو الأكثر تمثيلاً لطائفته كذلك، طالما أنهما يعرفان أن القرارات الحكومية ستكون مكبلة في نهاية الأمر بالفيتو الذي يفرضانه عليها، سواء من داخلها، أو من الخارج، كما حصل عند حصار مقر رئاسة الحكومة في أواخر عام 2006 أو في أحداث مايو (أيار) 2008.
أزمة وزارة المال يمكن أن تفضي إلى حل بطريقة من الطرق. غير أنها أكدت مرة أخرى أن عدم التساوي في نفوذ القوى السياسية، الذي يعود في قسم كبير منه إلى هيمنة «حزب الله» على معظم مواقع الدولة السياسية والأمنية، من خلف ستائر كثيرة، سيبقى عائقاً دون قيام مشروع وطني حقيقي. هذان النفوذ والهيمنة جربتهما في التاريخ اللبناني طوائف أخرى، وكانت النتيجة هزيمة لها قبل سواها.