أعتذر من القلم الذي ما تلفَّـظ يوماً معي إلاّ بما يُشبهُ التسابيح، عملاً بقول شكسبير: «مُدَامُ قلمِ الكاتب كـدَمِ الشهيد…»
ولكن… عندما يكون هناك مَـنْ يشـدُّ الشيطان مِنْ ذنَبـهِ، ليقذفَ بنا من جهنّم… إلى جهنم الحمراء…
وعندما يكون هناك إصرارٌ على اغتيال لبنان…
وعندما يسقط المنطق الوطني والمنطق العقلي إلى مستوى الأحذية…
وعندما لا يكون الرأس أفضلَ من القدمين…
إسمحوا لي أن أخاطبكم بلغتكم:
إنَّ حـذاءَ لبنان بالنسبة إلينا ، أشرف وأكـرمُ وأعظم ، مِـنْ كلِّ عروش الأمـم وتيجان الملوك.
هل مستقبل لبنان مرتبطٌ بمستقبل الرئيس «الملك ترامب» والإنتخابات الأميركية…؟
وهل مستقبل هذا الشعب مرتبطٌ بمبادرة فرنسا، ومباركة إيران وترطيب خاطر السعودية…؟
وهل مصير شعب لبنان العظيم مرتبطٌ بالـذُلّ والجوع والموت والنزوح، في وطنٍ أصبح غابـةً ومزرعة ومسخرة ومقبرة.
نحن كنا نعرف كلَّ مفاتيح الأسرار الغامضة للطبقة السياسية عندنا، وكنّا نغضُّ الطرْفَ عنِ التشهير حفاظاً على الشرف الوطني حتى لا: «يُـراقَ على جوانبهِ الـدمُ..» ولم نكُـنْ في حاجة إلى أنْ تكشف لنا فرنسا مع الإتحاد الأوروبي والأمـم المتحدة، بأنّ المسؤولين عندنا «يرتكبون خيانة جماعية، ويقدمون مصالحهم الخاصة على مصلحة لبنان…»
نعم … نحنُ كنّا نشعر بالعار الذليل وهُـمْ بالعيون البيض يتفاخرون، وفيما يقول تعالى: «وابيَضَّـتْ عيناهُ من الحزن…»
نـرى عيونهم فاقعة البياض فرحاً بالفساد، وما زالوا يفتلون شواربهم اعتزازاً، رحم الله المتنبي القائل:
مَـنْ يهُـنْ يسهلِ الهوانُ عليه
ما لجُـرحٍ بميِّـتٍ إيلامُ
يختلفون على الحكومة… ولماذا الحكم والحكومة إذا كان الوجود أخطر من عدم الوجود، والحكم أشبه بسلطة الإحتلال… وظلمُ ذوي القربى أشدُّ وأقسى.
في أواخر 1918 عندما بـدأ العثمانيون بمغادرة البلاد، نـزح الوالي العثماني عن بيروت وتسلّم الحكم رئيس البلدية عمر الداعوق، وذهب ممتاز بك عن جبل لبنان وتسلّم الحكم رئيس بلدية بعبدا حبيب فياض.
أليسَ هذا أجدى من سلطة شبيهة بالأسطورة اليونانية وعقدة «أوديب» الذي أشارتْ إليه العراّفات بأن يقتل أباه ويضاجع أمَّـه.
أوْ ماذا..؟ هل تطرحون المؤتمر التأسيسي…؟
ما دمنا لم نتّـفق على انتخاب رئيس للجمهورية إلا بعد سنتين ونصف السنة، ونعجز عن تأليف حكومة بالرغم من الضغط الدولي، فكم سنةً نحتاج توصُّلاً إلى الإتفاق على نظام تأسيسي.
أو أنّ البديل هي الحرب الأهلية…؟
وتعالوا إذْ ذاكَ نستدرج مأساةً جديدة تضاف إلى سلسلة مآسي التدمير والتهجير والثلاثمئة ألف شهيد للوصول إلى طائف جديد… وهل سنصل…؟
وإذْ ذاك أيضاً يصحّ لكلِّ فريقٍ أنْ يختار شيطاناً يستعين بـهِ للمحافظة على وجوده ، عندما يتعرّض وجوده للخطر بفعل السيطرة والإكراه.
الإكراهُ في الإسلام يحلّل المحرَّم، حتى تحريم الخمر والميتة ولحم الخنزير يصبح مبرراً إذا لم يكن هناك خلاصٌ إلاّ بـهِ.
في هذه الأجواء المثقلة بالضباب الوطني، لست أدري ما إذا كان من المعيب أن نستحضر رواية الملك سليمان الحكيم الذي زعَـمَ بأنّـه سيقطع الطفل بالسيف إلى نصفين، لكي نعرف من هي الأم التي سترمي بنفسها فوق الطفل لإنقاذه.
ولستُ أدري ما إذا كان السؤال التاريخي: أيّ لبنان نريد… قد يتحوّل إلى سؤال مخيف: هل تريدون لبنان…؟
وما إذا كان هناك سؤال مكتوم يفتش أيضاً عن جواب مخيف.
إذا كان لبنان أصغر من أن يُقسَّم
فهو أيضاً أكبر من أن يدمَّـر ويزول.