Site icon IMLebanon

النُخَب الجديدة  ومجتمعات النزاع والاستبداد

 

النخب الجديدة في مجتمعات النزاع والاستبداد تواجه تحديات كبيرة خلال عمليات بلورة الخيارات الاجتماعية والسياسية والمهنية والإبداعية، مما يحتم على تلك النخب التسليم بعملية التكيف والتأقلم القسري نتيجة مخاطر الظروف الدقيقة التي تتطلبها السلامة الفردية والجماعية في مجتمعات النزاع والاستبداد، بحيث يأتي التكيف متعارضا مع قواعد مجتمعات الانتظام البديهية التي تقوم على احترام القوانين العامة والتوازن بين الحقوق والواجبات على خلاف مجتمعات الاستبداد والنزاع التي تقوم على أحادية العنف والقهر والاستتباع.

المراحل الانتقالية من الاستبداد والنزاع الى مجتمع الحريات عملية بالغة الدقة وهي أشبه بغرف العناية الفائقة بعد العمليات الجراحية والتي تساعد المرضى على الانتقال الآمن من مرحلة الداء الى حالة الشفاء، والمراحل الانتقالية تتطلب ادراك دقيق لواقع التحولات المجتمعية وتحديد المخاطر والتحديات والتمييز ما بين الرغبة بالانعتاق من سجون الاستبداد وما بين القدرة على الاستشراف وتحديد الاتجاهات الإستراتيجية القائمة على المواءمة بين الإمكانيات والأهداف وضرورة الفهم العميق لأسباب تجذر واستدامة الاستبداد والنزاع في المجتمعات التواقة لعملية الانتقال المتدرج والخروج الآمن من واقع العنف والاستبداد الى الحرية والانتظام والاستقرار.

إن ظاهرة تعاظم الإحساس بالذات لدى النخب في مجتمعات النزاع والاستبداد تشكل إعاقة ذاتية مانعة للمراجعات الضرورية والبديهية لإعادة فهم الذات والمكتسبات الفردية والجماعية التراكمية خلال أزمنة التأقلم مع الخوف والظلم  والخضوع والتعايش مع موروثات الاستبداد والنزاع وأثرها البالغ على السلوكيات والخيارات، والمراجعات الفردية والجماعية هي من بديهيات مراحل الخلاص التدريجي من اجل تحديد المخاطر والتحديات وبلورة عناصر والقوة والضعف والمهارات الفردية والجماعية وتساهم في تنقية المراحل الانتقالية وتعزز فرص النجاح والخلاص.

الاستلاب الخارجي بمجتمعات دول الاستقرار والازدهار والحريات الفردية والعامة، ظاهرة شائعة في مجتمعات النزاع والاستبداد اذ يتحول الاستلاب من الرغبة بالتنوير والاطلاع على تجارب الآخرين الى شيء من الإدمان والإسقاطات الوهمية على الذات والانفصال عن الواقع والتماهي الافتراضي في تلك المجتمعات وتعميم حالات الإنكار والاغتراب الذاتي والعيش خارج الواقع الشديد المرارة والبؤس والظلم والعنف، وحالات الاستلاب الفردي والجماعي تشكل احدى اخطر مظاهر المأساة العميقة في مجتمعات الاستبداد والنزاع.

النخب الجديدة الطموحة في مجتمعات النزاع والاستبداد تعاني من إشكالية الالتباس في تعريف معنى السلطة والسياسة وأدواتها بين ما هي قوة قاهرة مانعة أو كونها إرادة مشروعة في التعبير والتغيير، وذلك الالتباس قد يؤدي الى تبسيط ممارسة العنف الفردي والجماعي وتحويله الى سلوك تلقائي في الحياة العامة والخاصة والمهنية والإعلامية والثقافية، وإضفاء الشرعية على استخدام العنف عبر شعارات الرغبة في مواجهة التسلط والاستبداد، مما يضع النخب الجديدة في مواجهة مع ذاتها ومجتمعاتها نتيجة تماثلها وتماهيها مع نقيضها المستبد مما يفقدها تمايزها وأسباب نجاحها ويستنزف قدراتها على تحقيق التغيير المنشود عبر بلورة أدوات سياسية سلمية وحزبية ومدنية تراكمية، والتاريخ البشري حافل بالأمثلة على جنوح نخب الحرية والتغيير المدنية نحو المواجهة العنيفة واعتماد معايير الهزيمة والانتصار بدل معايير الفشل والنجاح والنتيجة الطبيعية لذلك الجنوح نحو العنف كانت تجديد الاستبداد بالاستبداد والنزاع بالنزاع، ومجتمعاتنا التائهة في لبنان والمنطقة العربية بين لعنتي الاستبداد والنزاع كانت ولا تزال بانتظار نخب جديدة قادرة على استكشاف الطرق الانتقالية الآمنة من اجل تجاوز واقع النزاع والاستبداد والشروع في إرساء قواعد الانتظام والحقوق والواجبات وتكوين مجتمعات التجدد والانسياب والاستقرار .