يُحدّد العلم السياسي مفهوم الدولة بما تمثِّله من مدى قدرتها على الالتزام بوظائفها السياسية ـ الأمنية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية على أكمل وجه، وبما تشكّله أيضاً من لاعبٍ محوري في إدارة الشؤون المحلية ـ الاقليمية ـ الدولية. ومن أهم واجبات الدولة الفاعلة والناشطة والقويّة تنظيم الحقوق والحريات المدنية والعناية الصحية والتربوية والاجتماعية لرعاياها، كما الالتزام بتوفير البُنى التحتيّة ذات الكفاية العالية وتوفير النظام الاقتصادي الناجح لكي تستيطع رعايا هذه الدولة من السعي إلى تحقيق أيّ هدف وأي مشروع ذاتي… ومن سِمات الدولة القوية تحقيق الأمن والطمأنينة في سُلّم أولويات هَرمها السيادي. الظاهر أنّ الجمهورية اللبنانية أصابها الخلل البنيوي للأسف، وهناك أكثر من طرف إقليمي ـ دولي يُمسِك بزمام أمورها وبكل مفاصلها حتى السيادية ـ الأمنيّة، وذلك للاستفادة من الخلل في موازين القوى داخلياً لمصلحة هذه الدول ولإبقاء الساحة اللبنانية ساحة تجاذبات بيد هؤلاء… والظاهر أيضاً، وللأسف، أنّ هناك ميليشيا بوجوه متعدِّدة تحكم هذه الجمهورية وتُشكّل دويلاتها الخاصة ضمن ما كان يُعرف بالدولة المركزية، وتُخلّف هذه الدويلات معاناة للشعب اللبناني على كافة الصُعد، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المأساة الانسانية ـ المأساة الاجتماعية ـ المأساة الصحيّة ـ المأساة السياسية ـ المأساة الأمنية… وهذا ما يُحيلنا إلى مفهومٍ في علم السياسة يحمل عنوان «الدولة الفاشلة».
إنّ العلم السياسي يعتبر أنّ مفهوم الدولة الفاشلة يتلازَم مع صفات عدة، منها عجز الدولة عن القيام بوظائفها عموماً، وهي الدولة التي تفتقد السيطرة على كل ترابها الوطني، والدولة التي تكون عاجزة عن تحقيق الأمان والسلام والأمن والاستقرار لشعبها، والدولة التي ليس في استطاعتها فرض سيطرتها التامة على كل ترابها الوطني، والدولة التي لا تستطيع ضمان ورعاية الخطط الاصلاحية اقتصادياً ـ إنمائياً ـ اجتماعياً، العلم السياسي يعتبرها، وبعد مطالعاتٍ عدة ضمن مراجع موثّقة ومن خلال مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy )، فاشلة لأنها تفتقد سيادتها على أرضها، وسلطتها تتآكَل شرعيتها الى درجة العجز عن اتخاذ قرارات موحدة، وعدم قدرتها على توفير الخدمات العامة للمواطنين، وحتى عدم قدرتها على التفاعل مع دول الجوار والمجتمع الدولي.
يستحيل على الدولة اللبنانية الفاشلة في المبدأ، من خلال ما لَحظناه من شواهد وما لمسناه من وثائق وسَرد مُمِلّ لمسلكيتها ولممارساتها، أن تخرج من الإطار التي انخرطت فيه بملء إرادة مسؤوليها من جماعة السلطة وأرباب المال والمصالح وزعامات الأحزاب والطوائف. إنطلاقاً من تكوين هذه الدولة الفاشلة وصولاً إلى تشبُّثها بمصالح وتطلعات الغريب أصبحت مع الوقت مُلكاً حصرياً لأصحابها من أهل سلطة ضميرهم فاسد ولأنصارها المُغَرّر بهم والفاسدون والعبيد والقُطعان. وهي، أي هذه الدولة، مستمرة في الفشل بفضل هؤلاء كما بفضل الإقطاع السياسي المكوّن من زعامات طوائف ومذاهب وفئات سياسية عَفِنة إضافة إلى الأسرية والعائلية والأحزاب البربرية… كل هذه الأمور حَدت بنا الى أن نستنتج أنها دولة فاشلة حتماً.
دولة فاشلة بمفهومها الأمني، ولعل من معالم ترّدي الوضع الأمني هو السلاح غير الشرعي المتفلّت بين أيدي منظمات عسكرية تستقوي على الدولة، وهي تُخالف عملياً نص قانون الدفاع الوطني. دولة فاشلة لا تُقارب موضوع الأمن بجدّية، دولة فاشلة لا هاجس لديها لضبط الأمن، علماً أنّ المفهوم الأمني العسكري يبقى مفهوماً بالغ الدلالة، وهو في حد ذاته سيف ذو حدّين. دولة فاشلة لا تُعير الاهتمام لأيّ دراسة علميّة عسكرية، حيث تنصّ الواقعية الأمنية الحديثة على أنّ الدول تعمل وفقاً لمبدأ الحوافز، وتعكس مواقفها ضمن النظام الدولي. وعليه، فإنها تسعى للحفاظ على مكانتها النسبية داخله، وكلما نَمت قدرات دولة معينة إزدادت مكانتها في تراتبية السلطة وازداد نفوذها وتتحدّد بنية النظام العالمي عبر هذا التوزيع للقدرات. الدولة القوية غير الفاشلة لا توكِل أمنها للآخرين، ويُعدّ الأمن الهدف الأسمى الذي يَصبو إلى تحقيقه النظام الرشيد، الدولة الفاشلة تستنبِط الحروب وتتناسى أنّ المسؤولين عنها يُحاسبون من خلال المؤسسات الديموقراطية عن تكاليف تلك الحروب ومكاسبها، وغالباً ما تفوق التكاليف الفوائد ويتحمّل الشعب معظم هذه التكاليف. دولة فاشلة أمنياً، إذ تعمد إلى إهمال العديد من المبادىء الأمنية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: إنعدام سياسة أمن الأفراد ضد أي أخطار تهدد حياتهم أو ممتلكاتهم أو أُسَرهم، إنعدام وجود سياسة الأمن الوطني ضد أي أخطار خارجية أو داخلية للدولة وهو ما يُعرف بـ»الأمن القومي»، إنعدام وجود سياسة الأمن الإقليمي ـ الدولي باتفاق في إطار دولي على التخطيط لمواجهة التهديدات الإرهابية التي تواجهها، إنعدام وجود سياسة أمنية ـ عسكرية تتولاها الدولة مع المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن للحفاظ على السيادة الوطنية وبمؤازرة قواها الذاتية وضبط حدودها.
دولة فاشلة على المستوى الإقتصادي ـ الإجتماعي
إنّ لبنان يعيش أزمات متعدّدة ومتشعّبة، وهناك أزمة اقتصادية واجتماعية حادة. إنّ سياسة ما يُعرف بالتجميل الإقتصادي سياسة فاشلة في ظل الواقع الحقيقي للاقتصاد الوطني، وهناك نموّ لمعدل الديون غير مسبوق. إنّ الأزمات الاقتصادية ـ الاجتماعية تجعل الوضع في لبنان عرضة لاهتزازات بنيوية داخلية خطيرة، وتتزامَن هذه الاهتزازات مع محيط إقليمي ـ دولي مشتعِل ونزاعات وعقوبات، الأمر الذي سيجعل الوضع اللبناني عرضة للتأثر سلباً، ومخطىء من يظنّ أو يعتقد أنّ الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية هي وليدة أسباب آنية، وليكن معلوماً لدى الجميع في الدولة الفاشلة أنّ الانكماش الاقتصادي وتَنامي الدين العام والعجز المالي والبطالة والهجرة هي نتاج تراكمات لهذا النظام السياسي الذي يحمل في طيّاته بذور السرقة وهدر المال العام وسوء الأمانة واستغلال السلطة والنزاعات، ولنهج اقتصادي رَيعي غير مُنتج إمتدّ ويمتد منذ سنوات وسنوات ولا أحد من القوى السياسية لديه القدرة على إعفاء نفسه من المسؤولية… وهذا الأسلوب في النموذج الاقتصادي أثبتَ فشله، وبات يُحاكي أزمة ذات طابع انحداري.
دولة فاشلة على المستوى الصحي، في الدول النامية السياسة الصحية يمكن تعريفها بأنها القرارات والخطط والاجراءات التي يتم اتخاذها لتحقيق رعاية صحية محددة الأهداف داخل المجتمع. إنّ من أهم أهداف التنمية المستدامة في البلدان المتحَضِّرة هو تقديم الخدمات الصحية بأعلى معايير الجودة وبعدالة ومساواة إلى جميع المواطنين في مختلف مناطقهم.
إننا للأسف في دولتنا الفاشلة نتّجه إلى وضع صحي كارثي بعد الارتفاع الكبير في عدد الإصابات بكوفيد 19، ولقد اقتربت المستشفيات من الوصول إلى أقصى طاقاتها الاستيعابية بسبب تخفيف القيود نتيجة لسياسة خاطئة اعتُمِدَت، ما أدى إلى ارتفاع كبير في عدد الإصابات خلال هذه المرحلة، والمرضى يصطفّون في المستشفيات داخل الطوارىء انتظاراً لتأمين سرير. في الدولة الفاشلة لا مكان لـCrisis Management مسبقاً، وما ان استفحَلت أزمة هذا الوباء حتى تداعوا إلى المسارعة للدعوة الى اجتماع خلية أزمة لمناقشة تطورات وضع الوباء، إذ تُسجِّل يوميات الوقائع المرضية أنّ هذه اللجنة فشلت في مقاربة هذا الأمر، وأخطر ما في الأمر أنّ قراراتها تناقض بعضها بعضاً، والشعب يدفع الثمن موتاً.
إنّ وضعية الدولة اللبنانية باتت تستوفي شروط التدخّل الدولي في ظل عجزٍ فاضح للسلطة القائمة عن القيام بمسؤولياتها، ما يجعل إمكانية وضع لبنان تحت وصاية المجتمع الدولي لمرحلة انتقالية نتيجة حتميّة، وذلك استناداً إلى تَوافر معايير معتمدة كثيراً لتصنيف كهذا. إننا أصبحنا في دولة فاشلة تهدّد السلم والأمن الدوليين، وحالياً نحن تحت سيطرة قوى خارجية تستأثِر بالقرار الوطني، ما يستدعي تدخلاً عاجلاً لإنقاذ لبنان ومؤسساته الشرعية وشعبه من الانزلاق أكثر فأكثر.