عصفورية شرعية حاكمة بموجب الدستور، والناس الذين لا يزال عندهم بعضٌ من العقل، قـدْ يصبحون على ديـنِ ملوكهم.
في «إلياذة» هوميروس هناك ساحرةٌ تُدعى: سيرسا Circa سقَتْ فريقاً من الناس محلولاً سحرياً حوَّلهُـمْ من طبيعتهم الإنسانية إلى طبيعةٍ حيوانية، فيما الإنسان – بحسب علم النفس – هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أنْ يعبّـر عن شعوره بلغة العقل.
أحد الأصدقاء المثقَّفين، وفي ظلال هذه العصفورية الجنونية قال لي: خيـرٌ للإنسان ألاّ يفكّر بعقل، لأنّ التفكير العقلاني يؤدي إلى اكتشاف ما لم يُكتشف من مآسي الحاضر وما يخبِّـئُه المستقبل من عواصف معلَّقة فتقـع في اليأس والضياع، ومَـنْ زادت معرفته زادتْ أحزانُـه.
صدقَ صديقي… فقد بـات من الحكمة أن نتكلّم باللّغـة الجنونية الرائجة، تشبُّهاً بذلك المجنون الذي صعد إلى المئذنة، ولم يستطع أيُّ عاقلٍ أنْ يُـنْزلَهُ، إلاّ عندما جاء مجنون آخر وفي يـدِه منشار مهدِّداً بنشْـرِ المئذنة.
دعوا لغَة أفلاطون وإبـن خلدون والمتنبي: وتعالوا نتكلّم بلسان البسطاء والمساكين والحزانى، هكذا عشوائياً كمثل تلك الحوارات التي تدور بين روّاد المقاهي الشعبية، على قعقَـعةِ طاولةِ النْـردِ وكركرة «الأراكيل».
أهل المقاهي تـرنو أنظارهُم إلى فوق… إلى حيث قمّـة الحكم فلا تـرى إلاَّ ضباباً أسود…
رجال الدولة، أولياء الأمّـة، حُماةُ الوطن، رُعـاةُ الشعب، يتراقصون على الكراسي كالمهرِّجين.
يتخاطبون بلغة بنات الزنزانات..
يتبادلون الإتهام بالسهام…
المساجلة مشاتمة…
التفاهم تخاصُم…
المشاركةُ مُعاركة…
المشاورات الحكومية مشاجرات…
تبادُلُ اتَّهاماتٍ ملتهبةٍ بالكذب والتكاذب… وبفعل مستوى التخصّص بثقافة الكذب، لم تعد تعرف مَـنْ هو الصادق ومن هو الكاذب، إلاّ ما قاَلـه يوماً الأمير شكيب أرسلان «كـذِبُ الكبير يُسمّى سياسة…».
وحيال هذا المهرجان الصاخب لأهل الدولة:
– الدولة تتقـطّع أوصالاً على مواكب الإنتحار…
– والشعب أمامهُ إرهابـيَّان : رغيفٌ وتابوت.
لغة المقاهي والحزانى والمساكين، ترى أنّ الحكام جعلوا العلاقة بين الدولة والشعب على أنها صراع بين عدوَّين حسب المذهب القائل: إما أن تقتلني وإما أن أقتلك.
ومع هذا لماذا إذاً الدولة…؟
ما دام كلُّ أهل الأرض والسماء : من الأمم المتحدة إلى الإتحاد الأوروبي إلى الفاتيكان وبكركي والمجالس الدينية الشيعية والسنيّة العليا، وملائكة تفاهم مار مخايل، ما دامت هذه القوى كلّها لم تستطع أن تـؤلِّـف لهذه الدولة حكومة.
ولماذا الحكم إذاً…؟ ولماذا الحكومة، ولماذا الثلث المعطِّل ولماذا الثلث الضامن، لاستنساخِ عهدٍ عن عهدٍ إذا كان يشكّل محاولة اغتيال العهدين معاً برصاصة واحدة…
ولماذا الحكم والحكومة، ما دام الحكّام المقنّعون الذين تدلّ عليهم الأصابع: لن تقلعهم عن كراسي الحكم، حتى أصابع الديناميت.
في عصفورية الحكم الشرعية، لا بـدّ من أن نتذكر «أخوت شانيه» ذلك المجنون الذي استطاع بجنونه أن يـؤمن جـرّ المياه من نبع «القـاع» إلى قصر بيت الدين، حيث أشار على الأمير بشير بأن يصـفَّ الجند «والـزُلْم» من النبع إلى القصر على أن يحفر كلٌ منهم على قياس قبره.
ولست أدري متى يأتي ذلك اليوم الذي يفرض على كلَّ منّـا أن يحفر قبـرَهُ لإيصال مـاء الوجه إلى القصور.