لم يكن في حسابات الطبقة السياسية اللبنانية أن تستمر انتفاضة اللبنانيين ضد عهد الرئيس ميشال عون بهذا الزخم والتماسك، ففي بداية أسبوعها الرابع أثبتت «ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)» قدرتها على المناورة، ومراوغة السلطة وإرباك أجهزتها، التي عجزت حتى الآن عن تحقيق اختراق داخلها – أي الثورة – يمكّنها من ضرب تماسك المحتجين وتشتيت أهدافهم، ورغم حملات التخوين والتهويل والترهيب، فإنها لا تزال تمتلك زمام المبادرة، وهي الآن أكثر انتظاماً في حركتها وأهدافها التي بدأت تتبلور وفقاً لواقعين؛ الأول استمرار المشاركة الكثيفة في بيروت والمناطق كافة وتطوير وسائل الضغط على الدولة من خلال الدعوات إلى الإضرابات المفتوحة وقطع الطرقات الذي تحول إلى سلاح ذي حدين، فهو من جهة يمنع المؤسسات العامة والخاصة من ممارسة أعمالها الطبيعية، ولكن من جهة أخرى يؤدي إلى الإضرار بالحياة العامة للمواطنين، مما قد يتسبب في رد فعل عكسي ضد حركة الاحتجاجات تستثمره السلطة من أجل إثارة الرأي العام اللبناني ضد الانتفاضة. أما الواقع الثاني الذي بات يوفر مادة خصبة تبني الانتفاضة عليها ردودها، فمن خلال استثمار صراعات النفوذ بين أركان ما يسمى «العهد»، إضافة إلى الأخطاء السياسية التي ترتكب ضد الاحتجاجات، حيث لا يزال جزء كبير من الطبقة السياسية يتعاطى مع الشأن العام ومع الدولة بعقلية ما قبل «17 تشرين الأول (أكتوبر)».
يوم الأحد الماضي ظهراً تجمع أنصار التيار العوني في طريق ضيقة تؤدي إلى القصر الجمهوري الذي أعادوا تسميته بـ«قصر الشعب»، لكي يتناسب مع اللقب الشعبوي الذي أطلقوه على الجنرال ميشال عون بعد انتخابه رئيساً للجمهورية وهو «بَيّ الكل» في استعارة لمفردات الأنظمة الشمولية في فترة الحرب الباردة، التي فرضت التعامل مع زعمائها على أنهم آباء للأمة ورمز لوحدتها… اجتمعوا من أجل حشد التأييد للعهد ورموزه، لكن الرئيس عون الذي خرج مخاطباً جمهور تياره ومدافعاً عن نسيبه الوزير السابق جبران باسيل، فاقم أزمة الثقة بين موقع رئاسة الجمهورية وانتفاضة شعبية باتت تمثل مطالب أغلبية اللبنانيين، ولكن في بعبدا (حيث مقر رئاسة الجمهورية) كان خطاب رئيس «التيار الوطني» جبران باسيل واضحاً بأنه ليس موجهاً ضد الانتفاضة فقط التي تطالب بإبعاده من الحكومة، بل ضد شركائه في السلطة الذين يتهمهم بأنهم يريدون تحويله إلى كبش فداء من أجل إرضاء المحتجين، فلم يعد سراً أن باسيل المصرّ على إعادة توزيره حتى الآن يربط قبوله بالخروج من الحكومة بخروج رئيس الوزراء سعد الحريري أيضاً والأقطاب كافة من السلطة التنفيذية، الأمر الذي أعاد عقدة التكليف والتشكيل إلى المربع الأول وفاقم حرج «حزب الله» الذي يحاول إرضاء آخر شركائه الموارنة، لكن «حزب الله» يدرك حجم المخاطر الاقتصادية والسياسية في حال قرر الحريري الاعتذار عن عدم التكليف بسبب ابتزازات باسيل، حيث يعجز هذا المحور عن طرح أسماء تكون بديلاً فعلياً عن الحريري.
أما المأزق الآخر، فإن إعادة تشكيل الحكومة على القواعد السياسية السابقة ستؤدي إلى زيادة غضب الشارع المتمسك بحكومة حيادية من خبراء ليست لهم أدنى علاقة بالطبقة السياسية. ولذلك فإن العهد وأركانه أمام خيارات صعبة. أما حكومة برئاسة الحريري مختلطة من تكنوقراط وسياسيين غير استفزازيين فلن يرضى بها باسيل وسيعدها انكساراً لعهد ميشال عون وتآمراً من قبل أقطاب السلطة من أجل إبعاده، أو الذهاب إلى خيار شبه مستحيل بأن يشكل الحريري حكومة مصغرة من خبراء فقط، وهذا ما لن تقبل به الأطراف كافة، الأمر الذي يضع «حزب الله» أمام معضلة حقيقية، فهو من جهة يحتاج لغطاء مسيحي يؤمنه الثنائي عون – باسيل في الداخل والخارج، ومن جهة أخرى أزمة اقتصادية تجعل من الرئيس الحريري رقماً صعباً تجب مراعاته، ففي لحظة التكليف والتشكيل يستقوي الحريري بشروط الشارع من أجل فرض شروطه، ولكن المعضلة الكبرى التي لم تستوعبها السلطة حتى الآن هي في سؤال يطرح نفسه: هل يقبل الشارع الغاضب بكل هذه المعادلات؟
في مساء يوم الأحد اجتمع نحو 150 ألف لبناني وسط مدينة بيروت، فيما كانت الساحات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب تعج بالمتظاهرين الذين صدموا النظام بما يمكن تسميتها «الموجة الثانية» لثورتهم رداً على محاولات التسويف والتضليل كافة، وبرهنوا على أنه لا يمكن للعهد الرهان على انقسام الناس إلى شارعين، حيث بات الانقسام العمودي واضحاً بين ثورة كسرت قيود الطائفية والحزبية والمناطقية، ونظام عاجز عن فهم واحد من أضخم التحولات الاجتماعية في تاريخ لبنان الحديث يرفع شعار استعادة الدولة من أجل إعادة تركيب النظام.