شهد لبنان مؤخّرا مجموعة من الأحداث، سواء في داخله، أو في منطقتنا أو خارجها، تؤثّر تأثيرا بالغا على واقعه. فلبنان يبقى الصّدى للأسف، لأيّ حدث يحصل في المنطقة، كما يبقى السّاحة المناسبة لتصفيّة حسابات، أو ترتيب مصالح، بين الدّول الكبرى. كلّ ذلك لأنّ شعب لبنان إنساق طوعا إلى تدمير بنية الدّولة ومؤسّساتها، وانساق خلف الأحزاب والزّعامات الدينية أو المدنيّة، وعلى مختلف ولاءاتها، وإنتماءاتها الإقليميّة والدوليّة والطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة. ثورة 17 تشرين ظلّت ردّة فعل غوغائيّة، فاستمرّت ثقافة الإستضعاف أمام القوّة، والاستقواء على الضّعيف، والاستزلاف لهذا وذاك، والسّعي لجني الأرباح الماديّة، وشبق الوصول إلى السّلطة. كما تضاعفت أيضا، مشاعر الأنانيّة والذّاتيّة.
معظم اللبنانيين يشعرون باليأس. بعضهم إنهزم إلى منزله تاركا مصيره لما يقرّره قادة البلاد الذين منحهم منذ البداية ولاءه، وآخر بدأ بجلد الذات والتّصويب على الناس، وثالث يلهث خلف سمة يفرّ بها إلى الخارج، ورابع مقيم أو غير مقيم، يتسلّى بأخبار الناس. الإعلام يعكس كلّ هذه المظاهر. وعلى الرّغم من كل ذلك، فإنّ بعضنا وهم قلّة، قرّروا أولا، التّفاعل مع إيمانهم بالله خالق الكون، ومرسل الأنبياء والرسل الكرام، فآمنوا بلبنان الواحد، وبتراثه الثّقافي والإنساني والتّاريخي، وصمّموا على إنقاذه مهما يكن الثّمن. هم مقتنعون بأنّ الله أراد لبنان أن يكون نموذجا لإبنائه المؤمنين من كلّ الديانات، فجعله موئل العيش المشترك لهم جميعا، وجعلهم عندما يختلفون فيما بينهم، يدفعون الثّمن الباهظ، وعندما يتّفقون فيما بينهم، يجنون الثّمار الكبيرة. وهو سبحانه وتعالى، أرسل لنا قدّيسه يوحنّا بولس الثاني، ابن وطن بعيد لم يلامس وطننا في تاريخه، ليقول لنا ومن موقعه على رأس الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم، أنتم أكثر من أمّة، أنتم رسالة.
حزب إيران، مصرّ على إقناع الناس، أنّ الإحتفاظ بسلاحه ينقذ لبنان. سلاحه الموجود في لبنان، تحوّل إلى سلاح يستخدم لترهيب إسرائيل بغية تحييدها، وترهيب الناس في الداخل، بغية وضع يده على مكامن السّلطة، كل ذلك، من أجل تحقيق عامل قوّة إضافي لإيران في مفاوضاتها مع القوى الكبرى، وبغية المساهمة في إستعادة الحضور الشّيعي في المنطقة، تحضيرا لاستعادة أحداث قبل 1400 سنة، والانتقام من اليزيديّين السنّة، وفرض مفهومهم للإسلام الذي يتحدّث عن عودة وليّ الزمان.
نلوم حزب إيران لهذا التّفكير الذي يبقي لبنان في حالة الإنهيار. لكنّ الحزب لا يرى في الإنهيار مشكلة، ويطمئن حاشيته بأنّها ستخدم مخطّطاته ومصالحهم. لا همّ إن ضاع الوطن، فالوطن بالنسبة له ولهم، هو في كلّ مكان «كلّف» الله فيه وليّ الزمان بعث رسالته. وليس من حقّ بني إسرائيل، أن يغضبوا، هذا إذا كانوا غاضبين فعلا، فالباعث على الصّراع في عقيدتيهما ليس مسألة وطن، بل مسألة من منحه الله أرض فلسطين. إسرائيل تقول أنّ فلسطين لها لأنّ الله منحها لهم، فهم «شعبه المختار»، وبالنّسبة لحزب إيران، فالمسألة فقهيّة وإجتهاديّة. وهي بالتّالي قابلة للّتّسوية. فبالنسبة له ولإيران، الأولويّة الآن هي لتسويّة الوضع الداخلي في أمّة النبي محمّد عليه السّلام. لذلك فإنّ إسرائيل مرتاحة لأدائه، طالما أنّه لا يّوجّه سلاحه ضدها، بل يقوم عمليّا، بردع أيّ طرف آخر تسوّل له نفسه القيام بعمل ضدها بمعزل عنه، بما في ذلك القوى العلمانيّة الصغيرة، كأحد أجنحة الحزب السّوري القومي الإجتماعي، والشّيوعي، وبعض قوى القوميّين العرب. هذه القوى الصغيرة لم تهتم لما قام به عمليّا حزب إيران في الدّول العربيّة، بما في ذلك في بعض دول الهلال الخصيب، ولم تتوقف مثلا عند السّبب الذي جعل حزب إيران يجاهر في عدائه لدول معينة بينها فقط يقطنها حضور شيعي كبير، ولم تهتم بتطوّر علاقات الدول الأخرى، ولا علاقات روسيا مع إسرائيل، بعد الحرب الباردة. ربّما لأنّ هذه الأحزاب والقوى لا حضور لها، ولا مصدر مال لها سوى هذا الحزب.
من أجل كلّ ذلك لن أتوقّف كثيرا عند الإستعراض الذي قام به هذا الجناح في الحزب السوري القومي الإجتماعي في شارع الحمراء بتاريخ 25 أيار الجاري، الذي ما زال يردد في صحيفته، ما نطق به «الزعيم» عندما صاغ عقيدته في ثلاثينيات القرن الماضي، متبنيا الفكر النازي برمته، سواء لكراهيته لليهود، أو لنموذجه العنصري التفوقي على الآخرين. بل أضع الحدث في حجمه الطّبيعي. تماما كما كلّ حدث آخر يحدث في البلاد. كما لن اهتم كثيرا بهمروجة إعادة إنتخاب بشار الأسد، فهو متفلّت إلى أن يحين موعد قطاف رأسه.
في الواقع، أتوقّف أمام همروجة المحامي رامي عليق التلفزيونية، وتهجّماته على القضاء. لم أر هذا المحامي بمثل هذا الشّراسة ضدّ القضاء سابقا. فهو لم يهتم كثيرا بما حصل في مرفأ بيروت وفي ضياع العدالة للضحايا على أبواب القضاء المسيّس. لكنه مع غادة عون أفلت من عقاله. لم أكن أرغب بأن أعطيه مساحة في مقالاتي، لكنّه استفزّني عندما تباهى بذهابه مع وفد من أصحاب الأموال الضّائعة في المصارف، إلى نبيه بري، إلى «الأستاذ» ما غيره. ما قام به رامي عليق له خلفيّات سياسيّة لا تمتّ إلى موضوع العدالة أبدا. هو محام قام بتوجيه كلام اعتبر قدحا وذمّا بحقّ القضاء برمّته، وليس فقط بحق القاضي عويدات. فمن أحال طلب ملاحقته، لم يكن القاضي عويدات، بل مجلس القضاء، وتمّ تكليف قاض لهذا الغرض، فلماذا الحملة على عويدات؟ ولماذا هذا التأييد العارم من جانب غادة عون، وجبران باسيل؟ كل من يدعمه باسيل هو موضع شبهة. هذا محام لا يريد العدالة فعلا؟ من يريد العدالة لا يرى بعين واحدة فقط. وقد تمّ استدعاؤه وفقا للأصول، فرفض. وأصّر على عدم الحضور، فصدر قرار بجلبه مخفورا وفقا للأصول. لماذا لم تتدخّل في حينه نقابة المحامين وتقنعه بالمثول طوعا أمام القضاء. كان من المفترض احترام كلمة القضاء وأن يتفضّل نقيب المحامين بمرافقته سلما إلى القضاء، ومتابعة الأمور أصوليا. هذا المحامي تعمّد أن يقيم مسرحيّة عند ذهابه إلى نقابة المحامين. الأمن قام بتنفيذ مذكرة جلبه، ولم يعتد عليه. لماذا قامت قيامة نقابة المحامين؟ الشعب ليس غبيا ويقرأ الأحداث. لا يجوز الاستمرار بجعل القضاء مكسر عصا. أنا أؤيّد ما ذهب إليه رئيس تجمّع رجال الأعمال اللبنانيّين الفرنسيّين HAFLA أنطوان منسّى، من أنّ هنالك حملة ممنهجة لتدمير الاقتّصاد اللبناني، ومؤسّساته الماليّة بدءا بالمصرف المركزي، والقطاع المصرفي برمّته. وأضيف أنّ هناك حملة الآن مماثلة لتدمير القضاء أيضا.
نحن لسنا في «عصفوريّة» كما قال المحامي جورج سلوان على تويتر. فالعصفورية تعبير طبّي يشابه تعبير «بلد فاشل» كان قد أطلقه رئيس الحكومة الأسبق تمّام سلام في حينه. هذه التعابير تؤدّي إلى تكريس الإنهزام في نفوس الناس، وهذا ما يريده حزب إيران وحليفه نبيه بري، بغية فرض مؤتمر تأسيسيّ جديد، يلغي اتّفاق الطّائف ويكرّس المثالثة في قيادة البلاد، تمهيدا لظروف أزمة وطنيّة أخرى في أمد غير بعيد، تسمح لهما بوضع اليد على البلاد، وتسمح لحليفهما جبران بتحقيق طموحه بإقامة دويلته المارونيّة شمال خط الشام. لبنان ليس في عصفوريّة يا أستاذ سلوان، وليس بلدا فاشلا يا دولة الرئيس سلام، بل هو بلد مخطوف ومأسور. هو رهينة حزب إيران ونبيه بري وسلاحهما وأدواتهما وملحقاتهما من القيادات الضعيفة.
وقد أفرحنا نبأ لقاء سعادة سفير المملكة العربيّة السّعودية للكاردينال الرّاعي، حيث أكّد دعم بلاده لما يقوم به نيافته على الصعيد الوطني الجامع. فهذا دليل أنّ السّعودية تدرك أنّ اللبنانيّين هم أسرى سلاح حزب إيران ونبيه بري. ونتطلّع مجدّدا إلى دعم المملكة التي هي هدف حزب إيران الأول، لمساعدة لبنان على استعادة سيادته كاملة. فمن هنا يبدأ دحر العدوان عليها.
كما لفتنا ما قاله السّفير دايفيد هيل في واشنطن مؤخّرا بعد خروجه من الإدارة، وهو المحبّ للبنان بعد علاقة طويلة معه، حيث أكّد أنّ قادة لبنان فشلوا في وضع مصلحة الشّعب في المقام الأول. وشدّد على أنّ وقت إجراء إصلاحات شاملة قد حان الآن. وأثنى على وجود استعداد لبنان للتّفاوض مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحريّة بينهما تحت مظلّة الأمم المتّحدة. وقال أنّ لبنان لن يستعيد قوّته ويحقّق سيادته طالما أنّ حزب الله يكدّس السّلاح ويتعامل بنشاطات غير مشروعة، ويتلقّى أوامر من قوى أجنبيّة. وقال أنّ السياسة الأميركيّة تجاه لبنان لا تتغيّر من إدارة إلى أخرى، علما أنه لا يمكن فصل السياسة تجاهه عن سياسات المنطقة. كلّ هذه المواقف تدعم وجهة نظرنا عن العدالة للبنان وشعبه والتي شرحناها مرارا، وخاصّة لجهة الحاجة إلى التمسّك بحقوقنا المشروعة والمعترف بها، واحترام واجباتنا، والمطالبة بتطبيق القرارات الدوليّة للأمم المتّحدة بشأن وطننا.
نحن نلفت أخواننا في حزب النّهضة، أنّ عليهم أن يستفيقوا إلى مفهوم النّهضة للقرن الحادي والعشرين. فقد سقطت الإيديولوجيّات، ومنطق الحقوق لا يحقّقه إلا التّمسك بها واحترام الموجبات مهما كانت مرّة. فطبيعة المستقبل لا تقبل الإيديولوجيّات، لا السياسية ولا الدينية، بما في ذلك إيديولوجيا حزب إيران أو إسرائيل او الإخوان وغيرهم. المجاهرة في العداء لليهود، تعتبر جريمة لا يحاكم عليها القانون المحلّي للدّول فحسب، بل القانون الدّولي بصفته جريمة ضدّ الإنسانيّة. كلّ بلد في العالم يحتضن سوريّا قوميّا إجتماعيّا يمكن أن يلاحقه المعادون قضائيا. فمن أجل أبنائكم أوقفوا هذه الشّعارات الفارغة.
وإلى حزب إيران أقول، لن تتحقق نبوءة صموئيل هانغتنتون بشأن صراع الحضارات. هو كان يرّوج لما تريده إسرائيل والصهيونيّة والأنكلوسكسونيّة المتطرّفة. لكنّ هذا الشعار سقط نهائيا مع سقوط ترامب في أميركا، لن ينجح سوى شعار لبنان النّموذج لحوار الحضارات الذي بشّرنا به القدّيس يوحنّا بولس الثاني.
ونرجو غبطة البطريرك الرّاعي أن يقرأ بدقّة مواقف عليق ورسالة هيل. ونعيد التّأكيد على ثقتنا به قائدا منقذا للبنان الرّسالة. فهو تلميذ مدرسة هذا القدّيس، ومن واجبه تأكيد رسالته. نحن ننتظر أن تبلور دعواته من أجل حياد لبنان والمؤتمر الدّولي، بمبادرات عمليّة يطالب فيها الأمم المتّحدة بتنفيذ قراراتها في لبنان، ويؤكد على حقوق لبنان وواجباته وفقا للقانون الدّولي، ولهذه القرارات. نحن نثق أنّه لن يسمح بما يمسّ السّيادة ولا بالتنازل شبرا واحدا عن الحقوق الوطنيّة التي يحميها القانون الدّولي. فبادر مع أخوانك من رجالات الدّين الأحرار من كلّ الطّوائف، والله وليّ التّوفيق.