Site icon IMLebanon

دوائر الإستعصاء

 

ليس الإستعصاء الحكومي سوى دائرة ضمن دوائر من الإستعصاءات أكبر فأكبر. ونحن رهائن تتكيف مع الإذلال اليومي الذي يمارسه الآسرون، وتنقسم في التحزب لهم، وتندفع للتقاتل دفاعاً عن مصالحهم عند قرع الطبول الطائفية والمذهبية. أكثر ما ينطبق على خطاب المافيا المتسلطة وسلوكها وصراعاتها هو تعبير حنة أرندت: “تفاهة الشر”. وأفظع ما في شرور الذين صنعوا ويحرسون إنهيار البلد هو أن أيّاً منهم لا يملك سيناريو لليوم التالي بعد الإنهيار ولا يتحسب لأي سيناريو تفرضه قوة الأشياء، وإن كان هناك من يدعي العكس. وإذا كانت معادلة: لا حكومة ولا إعتذار الخطيرة هي الأقل خطورة على مصالح المافيا الخائفة من حكومة إصلاحات والمتخوفة من إنفجار بعد الإعتذار، فإن معادلات الإستعصاء في الدوائر الأكبر أخطر.

 

ذلك أن الدعوات الى الإتجاه شرقاً، وتقاليد الإتجاه غرباً في لبنان المحتاج الى المساعدات، قادت الى “إستعصاء سياسي” في معادلة: لا شرق ولا غرب. فالمقصود بالشرق في الدعوات هو عملياً إيران ثم روسيا والصين. إيران في وضع إقتصادي صعب، والإستيراد منها وخصوصاً في مجال النفط والتسلح يضع لبنان تحت مقصلة العقوبات. ولبنان يتعامل مع الصين وروسيا، لكن ما يحتاجه أكبر مما يريد أو يستطيع البلدان تقديمه. أما إستعداد الغرب والعرب لتقديم المساعدات اللازمة، فإنه مشروط بتأليف حكومة تجري إصلاحات وتتفاوض على برنامج إنقاذي مع صندوق النقد الدولي. والمافيا لا تريد حكومة إصلاحات لأنها ضد مصالحها، وبعضها يرفض اللجوء الى صندوق النقد.

 

والدعوات الى الحفاظ على إتفاق الطائف وإستكمال تطبيقه كما المطالبة بتعديله تصطدم بواقع يفرض معادلة “إستعصاء نظامي” هي: لا تفعيل، ولا تعديل. فاستكمال التطبيق يعني الذهاب الى اللامركزية الإدارية الواسعة، وإلغاء أي سلاح خارج الشرعية، وتأليف هيئة وطنية لتجاوز الطائفية، وإنتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس شيوخ للطوائف. وهذا ما تخاف المافيا منه، وإن طالب به بعضها للوصول الى هيمنة مذهبية مقنّعة. وتعديل الطائف على البارد صعب، وعلى الحامي خطير. وفي الحالين يفرض الطرف القوي رؤيته، وهي ليست الطريق الى دولة مدنية.

 

والدائرة الأكبر هي دائرة “الإستعصاء الوجودي”. فما تميّز به الوطن الصغير، بصرف النظر عن السلبيات والنواقص، هو أنه “البلد-الرسالة” المختلف عن بلدان المنطقة لجهة التمسك بالحرية والإنفتاح الثقافي والسياسي والإقتصادي. وما يتعرض له اليوم هو دفعه ليصبح مختلفاً بشكل معاكس، بحيث يتخلى عن هويته ورسالة العيش المشترك بالمعنى السياسي. وهذه مهمة مستحيلة بالنسبة الى أي طرف مهما كان قوياً مدعوماً من قوة إقليمية لديها مشروع هيمنة على العالم العربي.

 

وشعار الجميع هو حب لبنان. لكنه تطبيق عملي لقول الأخطل الصغير: “ومن الحب ما قتل”.