منذ أنْ راحت ملامح الدولة ترتسم في لبنان، كان بين لبنان والدولة عداوةٌ تاريخية.
بعد حرب أهلية معزّزة بقوى الخارج استمرَّتْ ما بين سنة 1584 و1591، استطاع الأمير فخر الدين المعني الكبير أنْ يمـدّ سيطرته على جميع مناطق لبنان الشمالية والجنوبية والبقاع ووادي التيـم وبلاد بعلبك وكسروان، فكان بذلك يرسم معالم الدولة الجغرافية لخريطة البطريرك الحويك.
لم يتمكن فخر الدين من تحقيق دولته لو لم تكن حركته نابعة من عوامل قومية لا دينيـة.
ولكنّ دولة الأمير لـم تـرُقْ للعثمانيين فتمكّنوا من القضاء عليها سنة 1633 لتستمرّ الفوضى سنيـنَ طويلة تضخّمتْ في أحداث 1840-1860 واختلطت فيها ملائكة الوطنية بشياطين المذهبية التي تعززت في عهد المتصرفية والقائمقاميتين.
منذ ذلك الحين ، بـرزت الفوضى الطائفية كمذهب سياسي في لبنان يتنكّر للدولة ويمجّـد الإقطاعية والفردية، وراح يجرّر أذياله إلى ما قبل الإستقلال، فكان هناك لبنانيون ضـدّ الدولة ومع الأجنبي…
وكان لبنانيون وأجانب ضـدّ الدولة وضـدّ الوطن…
لبنانيون يطالبون بالإنضمام إلى سوريا…
ولبنانيون يطالبون باستمرار الإنتداب الفرنسي.
يومها، بيار الجميل الزعيم المسيحي قـاد المظاهرات المسيحية – الإسلامية ضـدّ الإنتداب وقال في بيان: «مهما كانت عواطفنا نحو فرنسا فنحن لبنانيون أولاً ونريد أن نكون أحراراً في دولة حـرّة»(1).
هذه اللَّبْننَـة المطلقة راحت أيضاً خلال الإجتياح الفلسطيني والوجود السوري في لبنان تترنّح بين اللَّبْننَـة ونصف اللَّبننـة، فكانت ولادة الميليشيات.
لو كانت اللَّبننَـة محقِّقـة في كل لبنان، لما تعرّض لبنان لاهتزازات وجودية وانتفاضات كيانية كمثل ما نحن عليه اليوم.
كانوا يقولون: إنَّ العروبة محقّقة في شكل كامل في نصف لبنان، وما على النصف الآخر إلاّ أن يعتنـقَ هذه العروية حتى يكتمل مفهوم لبنان العربي.
ألاَ تنطبق هذه القاعدة على واقع لبنان ليكتمل مفهوم لبنان اللبناني…؟
الإيمان الوطني كالإيمان الروحي: إمَّا أن يكون مطلقاً أوْ لا يكون.
نصفُ الإيمان الإلهي يشطر اللَّـهَ إلهيـن ويقود إلى التوثُّن…
ونصفُ الإيمان الوطني يقسم الوطنَ قسمين ويقود إلى الخيانة…
كان أرسطو يقول: «على اليوناني أن يفقَـهَ معنى الوطنية ليدرك ماهيةَ الدولة الفاضلة».
والفيلسوف «هيغل» كان يمجّـد الدولة الإلمانية ليشدّ الروابط الوطنية الوثيقة بها.
عندما تنفصم الروابط الوطنية الوثيقة التي تقيمها الأمـة بيننا، وإذا لـمْ تجمع المواطنين روحٌ وطنية واحدة ونظام واحد وهدف واحد وهـوّية واحدة تربط بعضهم ببعضهم الآخر وتربطهم جميعاً بالوطن وبالتاريخ.
إذ ذاك تسقط الوطنية وتسقط اللَّبننَـة.
يقول كمال يوسف الحاج: استناداً إلى ما صـرّح بـه أنطون سعاده قبل إعدامه: «إن أنطون سعاده لو بقي حيّـاً لكان لبنَـنَ قوميته السورية»(2).
بعض محطات التاريخ كانت تجمع بيننا كأنّها اتفاق هدنـه، ثم تستيقظ فينا تناقضاتنا الوطنية والطائفية والعقائدية والإقطاعية فنقع: إما في حلبة التصارع وإما في غيبوبة الفراغ.
لا مجال بعد لأنْ نكـرّر تجارب التاريخ وقد أصبحت خصائص لبنان التاريخية كما الآثار في المتاحف، ولا خلاص إلاّ بالدولة المدنية.
يخطئ من يعتقد أنّ الدولة المدنية تتعارض مع المسيحية والإسلام، كثيرون من المفكّرين منهم ينادون بها، رؤوف قبيسي يقول: «لا مناص من الدولة المدنية خلاصاً للبنان، هي أقرب إلى اللـه والقرآن من أي دولة دينية أو مذهبية أخرى» (3).
ولنا كلام آخـر مستفيض حـول هذا الموضوع، مع يقيننا بأنّ الموضوع لا يتعلق بالنصوص بقدر ما يتعلّق بالنفوس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بيار الجميل: من كتاب لبشارة الخوري فارس الموارنة وليد عوض – الجزء الثاني – ص.46.
2 – كمال يوسف الحاج: في محاضرة ألقاها في الندوة اللبنانية بدعوة من مجلة الإنطلاق: 25/3/1964
3 – رؤوف قبيسي: جريدة النهار: 28/11/2015.