أدخل مؤتمر «دعم مستقبل سورية والمنطقة» الذي انعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل، لبنان في جدل جديد حول قضية اللاجئين السوريين. والمؤتمر الذي حضره رئيس الحكومة سعد الحريري وغاب عنه وزيرا الخارجية والدولة لشؤون النازحين، أعاد التأكيد على ربط عودة اللاجئين بالعملية السياسية غير المتوافرة حالياً، وعلى رغم أن البيان الوزاري للحكومة التي لم يمض ستة أسابيع على تشكيلها تخطى الجدل حول الشروط التي تحكم طبيعة العودة فيما إذا كانت «طوعية» بحسب التعبير الذي يعتمده المجتمع الدولي أم «آمنة» بحسب التوافقات اللبنانية، إلا أن الاصطفاف دخل مرحلة «التموضع» حول القضايا الإقليمية والاستقطاب بين المحاور من زاوية الموقف تجاه النازحين.
فحيث يتفرّد لبنان، من بين دول جوار سورية، بخاصية الانقسام الداخلي على خلفية ملف النزوح السوري، فذلك يفسح المجال لنظام بشار الأسد لاستخدام هذه الورقة بهدف تعزيز حضوره ودفع لبنان إلى تطبيع العلاقات معه واستخدامه في السياسة الخارجية. وحيث نجحت الديبلوماسية اللبنانية بإفراد جانب مهم من أدائها وحضورها في المنابر الدولية لأجل التسويق لعودة سورية إلى جامعة الدول العربية، أو لضرورة الشروع في إعادة الإعمار قبل الحل السياسي، أو حتى في الذهاب إلى الدعوة لمنع اللاجئين من التصويت بهدف نزع إمكان استخدامهم بوجه الأسد في الانتخابات، فإن ذلك يضع لبنان في مواجهة مع المجتمع الدولي والمقاربة الدولية للشأن السوري.
إلا أن الأخطر من ذلك يكمن في ارتفاع منسوب الخطاب الشعبوي والعنصري تجاه اللاجئين، مستفيداً من وضع رئاسة الجمهورية هذا الملف في رأس سلّم أولوياتها، وتحميل النازحين مسؤولية تردي الواقع المعيشي وتراجع الاقتصاد وانهيار البنية التحتية، والدعوة إلى الانفتاح على الأسد بغية إعادتهم بمعزل عن عملية سياسية من شأنها أن تُعيد الاستقرار الحقيقي إلى سورية.
ومع معرفة هذا الفريق بأن الخطابات الشعبوية أو التعنيف اللفظي لا تعيد اللاجئين السوريين إلى ديارهم، إلا أن النهج التصاعدي بوجه اللاجئين، والخوف من التحوّل إلى إعادتهم بشكل قسري، يجعلان من أزمة النازحين السوريين قضية خلاف رئيسية تصل إلى حد انقسام المشهد اللبناني بما يُذكّر بالاستقطاب التقليدي حول قضية الوجود الفلسطيني في لبنان، لكنه هذه المرة لا يكتسب الحدة الطائفية ذاتها التي كانت عليه سابقاً بفضل اصطفاف القوات اللبنانية في الجهة التي تتعاطى بواقعية مع تداعيات هذا الملف.
بالتوازي، فإن جملة معطيات تُدخل الجدل حول اللاجئين في إطار العمل لإعادة بشار الأسد ونفوذه إلى لبنان من زاوية الحاجة إليه في تأمين عودة اللاجئين. ومع أن السلطات السورية لم تقم بأي إجراء يشجع النازحين إلى لبنان على العودة، لا بل قامت بكل ما يُبقيهم خارج سورية، فإن الدعوة التي يتبناها أتباع سورية من اللبنانيين تقف عند حد التواصل والانفتاح السياسي. إذ ان الترتيبات العملانية التي نجحت في تأمين عودة حوالى 170 ألف نازح إلى سورية خلال العام الماضي قام بها مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم بصفته مكلفاً من الدولة اللبنانية بمتابعة هذا الملف مع السلطات السورية بالتوازي مع دوره في اللجنة التي شكلها لبنان لمتابعة المبادرة الروسية.
وبالتزامن مع ذلك، فإن مواجهة الضغوط المتصاعدة على إيران ونظام الأسد يفترض من هؤلاء أن تلتحم الساحتان اللبنانية والسورية في إطار استراتيجية واحدة تظهر معالمها تباعاً وتستدعي تهيئة الأرضية الداخلية لمواجهة المزيد من الضغوط. فذهاب الأسد إلى طهران يعطيه دفعة معنوية كشريك كامل الأوصاف في «محور الممانعة» يمكن أن يُعيده إلى اعتبارات ما قبل العام 2011، بحيث يُعيد توظيف حلفائه بهدف معاقبة خصومه التقليديين الذين سبق ونجحوا في إخراجه عام 2005، وحض هؤلاء على الانقلاب على المرحلة التي أفضت إلى تشكيل المحكمة الدولية لكشف حقيقة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وأكثر ما يعبر عن ذلك التصعيد المنهجي الذي يتعرض له رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، والسعي للنفاذ إلى تشتيت المؤسسات الدرزية بوجهه في لبنان والتي تمايزت بوحدتها خلال الحقبة الماضية.
و«الحاجة» اللبنانية إلى الأسد لا تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد إلى طموح عارم لدى بعض الطبقة الحاكمة للإسهام في مشاريع إعادة إعمار سورية. ولا يخفى أن الفلسفة الاقتصادية التي تقف خلف المشهد اللبناني حالياً إنما تقوم على جملة آمال يتعلّق جزء منها بالاستفادة من المساعدات التي أُقرت في «مؤتمر سيدر» والجزء الآخر يسعى إلى الانخراط في «إعادة إعمار سورية»، وليس من الغريب أن يتم إقحام هذا الأمر في السجال الداخلي بهدف تجميل عملية التطبيع مع نظام الأسد وتقديمها بصورة تخدم مصلحة اللبنانيين الاقتصادية إلى درجة أن الدعوة هذه تحولت إلى هدف استراتيجي لجزء من السلطة الحاكمة، إذ يرد بند «المشاركة بإعادة إعمار سورية» كواحد من الأهداف الرئيسية في الورقة السياسية التي أعلنها التيار الوطني الحر في مؤتمره الأخير!
وبالعودة إلى مؤتمر بروكسل فهو انطلق من تقييم عام للأوضاع في سورية لا يشجع بنتيجته على عودة اللاجئين، ويرسم خططه المستقبلية لثلاث سنوات قادمة، والأهم أن ذلك لا يتعلق فقط بغياب الحل السياسي، إنما أيضاً بوجود أرضية سياسية وأمنية واقتصادية في سورية لا تزال تدفع السوريين إلى الهجرة وليس العكس، خاصة في غياب السلطة المركزية وتعدّد الولاءات داخل المؤسسة العسكرية وتعدّد المرجعيات الذي أفقد حتى المبادرة الروسية القدرة على تأمين الضمانات الواجبة لعودة اللاجئين.
لا شك في أن مصلحة لبنان الاستراتيجية تكمن في حل سياسي حقيقي في سورية وهو ما يضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم. ولبنان في هذه الحال يكسب استقراراً حقيقياً في سورية ولبنان، ويسهم في إعادة الإعمار وينفتح على علاقات طبيعية في إطاره العربي، لكن ذلك يغيب عن جزء من الخطاب الرسمي اللبناني لدرجة تُبيح التساؤل عمّا إذا كان المطلوب هو عودة النازحين إلى سورية، أم إعادة الأسد إلى لبنان؟