Site icon IMLebanon

لبنان وأبو ظبي ما بين زيارتين بابويتين متكاملتين

 

هذا المؤتمر الذي تم انعقاده في ابو ظبي، في صلب تلك الصحراء الساحرة التي أطل الدين الإسلامي الحنيف منها متلألئا بروحه السمحة، وإطلالته على المحيطات التي جاورته والتي وصلت إليها حملاته التبشيرية وتعاليمه القرآنية التي لمّت شمل كل ما طاول هذا الكون من أديان سماوية، ويكفي في هذا الإطار ان نتتبع الآيات القرآنية التي دمجت الأديان في أصولها الواحدة، وبالنتيجة امتزاج الديانات في جذورها وفي تفاصيلها بتعاليم متأصلة بمبادئها التوحيدية طقوس عديدة متقاربة في وجهات التعبّد وفي أصول التعامل وفي مناهج الحياة بكافة جوانبها وآفاقها، ذلك المؤتمر (مؤتمر التسامح) الذي عقد في أبو ظبي بحضور قطبي الديانتين، قداسة البابا وفضيلة شيخ الأزهر إضافة إلى أرتال واسعة من أتباع نهجهما، وقد جاء المؤتمر بعد ذلك الإنفلات الممنهج الذي أطلق إلى الوجود أفواجا إرهابية، كان نصيبنا المؤسف منها كبيرا وخطيرا، متسلحا بمساحات هائلة من تفسير الدين ومبادئه السمحة بهذا القدر الهائل من التشويه والشذوذ وقتل الناس وتهجيرهم، وبارتكاب الفظائع بحق الآخرين إلى درجة الإستغلال الشنيع والاستعباد المخزي، ولم تقتصر تصرفات العنف الهمجي على الأوساط الداعشية وأقرانها، بل تمدّدت هذه التصرفات الخطيرة إلى أكثر من بلد وأكثر من جهة وأكثر من ديانة ومذهب، وإذا كنا نرغب في الاكتفاء بما هو قائم منها ومستمر حتى تاريخه، فلنا في ما سبق ان لمسناه في دول يوغوسلافيا السابقة وما هو قائم حاليا في بعض بلدان آسيا من مذابح وعمليات اقتلاع للشعب المسلم من جذوره ودفعه إلى الهروب والتشرد، لنا في كل ذلك خير دليل على أن التصرفات الوحشية المتلطية والمتخفية خلف الدين، هي من المظاهر والتصرفات غير الطبيعية والتي تنشأ وسط دوافع محلية أو خارجية مشبوهة ذات غايات ومصالح في خلق تلك الأجواء المتأججة، وها هو مؤتمر التسامح، الذي انعقد في أبو ظبي على هذا المستوى الرفيع من الإعداد والإداء المتفوق، يؤكد لنا أن الوعي العام في الجزيرة العربية بأسرها وفي البلدان الإسلامية على وجه العموم، قد طاولته تحوّلات جذرية، أعادت الإسلام من خلالها إلى حقيقته السمحة التي رأينا بعضا من معالمها المستحدثة في وسط الصحراء التي نفضت عنها كل غبار موقعها التاريخي الذي شاءت الظروف أن تهبه في الوقت نفسه نعمة كل تلك الثروات الطائلة التي حولته إلى أماكن ومدن ومناطق حضارية متطورة قد لا تجد لها مثيلا في عالمنا المعاصر في أهم بلدان العالم الغربي على مجمل امتداداته.

جميل أن تنشأ في قلب تلك المناطق مساجد وكنائس تمحو عن الإسلام كل صور التمنع والتحفظ تجاه الآخر، وتجاه انتماءاته الدينية على وجه الخصوص، وجميل قبل ذلك أن نشهد في القاهرة، إنشاء مسجد وكنيسة متوازيين متجاورين ومتلاقيين، تم افتتاحهما معا وفي الوقت نفسه بمهرجان احتفالي حاشد، فضلا عما نشهده من رفض شعبي واسع لكل الأعمال الهمجية التي يقوم بها بعض مدعي التديّن والإنغماس في أعماق الشريعة الإسلامية بصورة شديدة الخطأ والخطورة، والنتائج السلبية التي أعادتنا قرونا إلى الوراء.

إننا كمسلمين من أبناء بلد العيش المشترك لبنان، ورغم ما عانيناه من أعمال مختلفة وتصرفات شاذة لدى بعضنا البعض، قد دفعنا ثمنا طائلا ثمنا لبعض ممارساتنا البعيدة عن حقيقة حضارتينا الإسلامية والمسيحية، وسنبذل كثيرا من الوقت لتجاوز سيئاته ولاستعادة حسناته، خاصة منها، ذلك النتاج المعنوي الذي طبع السمة اللبنانية بتعدّديتها الدينية والمذهبية، حتى اذا ما صفيّنا هذا الواقع المتعدد، من سيئاته ومساوئه التي بقيت في أوساطنا إما نتيجة جهل توارثناه أو نتيجة لمنازعات غريبة لم تشأ لهذا البلد أن يستمر في ما باشره من نهج لحياته الوطنية المتكاتفة والمتآلفة بين جميع أركانه ومكوناته وعناصره، ولكننا رغم كل المساوئ، سنظل مؤمنين بمنحى العيش المشترك الذي مارسناه منذ عقود عديدة، ولا شك أن كثيرا من المساوئ والعقبات قد طاولتنا في مسيرتنا اللبنانية الفريدة، إلاّ اننا تجاوزنا الكثير منها وسنبقى إلى ما شاء الله في محاولات حثيثة لنتجاوز ما تبقى من آثار بعض الماضي الذي طاولت أرجاءه الواسعة، بعض من المعالم المؤسفة التي عوّض عن بعضها ذلك الإشعاع الحضاري الذي لطالما انطلق من أرجاء هذا الوطن الصغير، ليملأ العالم بصورته وعلى وجه الخصوص، ليملأ المنطقة العربية بدفق من الحياة والحضارة والتقدم، كان له اليد الطولى في تحقيق جزء هام من حضارته الحديثة التي تتجلى بعض مظاهرها اليوم في ذلك المؤتمر التاريخي الذي انعقد في أبو ظبي الشقيقة، وكانت له معالمه وآثاره ودلالاته التي ستسهم في إعادة صفوف العالم المتفلتة إلى صف الديانتين السماويتين، الإسلام والمسيحية، بروحهما السمحة وصفائهما الروحي وغاياتهما الجليلة، ويا أيها اللبنانيون الذين يغوص بعضنا في وحول عديدة في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستجدة، هذه أبو ظبي وها هو قداسة البابا هناك، وها هو فضيلة الإمام الأكبر شيخ الازهر، في مؤتمرهم الخيّر، راجيان أن نستفيد من إيحاءاته المنيرة ومن اشاراته المستقبلية ذات الدلالة وذات الضوء المنير الساطع، الأمر الذي يدفعنا إلى استذكار زيارة قديمة لقداسة البابا إلى لبنان، كان لها وقعها وأثرها في تمتين أواصر الوجود اللبنانية بصفاته التعايشية والميثاقية.