IMLebanon

لبنان والسياسة الخارجية… مقارنة بين حِلفَي «داعش» و«بغداد»

بدأ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية توجيه ضرباته إلى «داعش» بشقّيه العراقي والسوري، في وقتٍ أصبح لبنان الرسمي ركناً من مدماك هذا التحالف، ما يُعيد إلى الأذهان محاولة لبنان الرأسمالي صاحب الوجه الاقتصادي الحرّ الدخول عام 1958 في حلف بغداد المناوئ للشيوعيّة أيام الرئيس الراحل كميل شمعون.

تبرز اليوم مجدّداً السياسة الخارجية للدولة اللبنانية وموقعها من الأحلاف، بعدما سلك الخيار العسكري ضدَّ «داعش» طريقه إلى التنفيذ، خصوصاً أنَّ وزير الخارجية جبران باسيل، هو حليف «حزب الله»، الحليف الأساسي للمحور السوري- الإيراني المستبعَد من الائتلاف الدولي.

لا يفهم أحد كيف تُدار السياسة الخارجية اللبنانية ومَن يقودها وعلى أيّ أساس تؤخَذ القرارات، وسط خطاب عالي اللهجة لباسيل يُعبّر عن مشاعر ورغبات قسم كبير من اللبنانيّين، حتى خصومه السياسيّين، لكنّه غير واقعي مقارنةً مع قدرات الدولة اللبنانية المشتّتة.

تعود ذاكرة اللبنانين الى محاولة لبنان الدخولَ في حلف بغداد على رغم أوجه الشبه المختلفة. ففي ذلك الحين كان لبنان بلداً قوياً، أضعَفَته الإنقاسامات السياسية، وكان على رأسه رئيس جمهورية لُقّب بـ»فخامة الملك» هو كميل شمعون، الذي تمرَّسَ في العمل الديبلوماسي وعرفَ السياسة الغربية وزواريبها، فهو كان حليفَ أميركا، وعايشَ الإنتداب الفرنسي، وكان سفيرَ لبنان في بريطانيا أيّام الحرب العالمية الثانية عندما كانت بريطانيا الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبالتالي فقد استغلَّ علاقاته الغربية من أجل تدعيم الاقتصاد وتقوية المؤسسات، فعاد عليه الغرب بالمساعدات.

أمّا اليوم فلا رئيس للجمهورية، في ظلِّ اقتصادٍ شبه منهار يعيش على المكرمات، ولا يوجد طرف واحد ممسك بالساحة اللبنانية بل أطراف تتقاسمها، ودولة أشبه بدويلات.

لكنّ الدخول في الحلف الدولي يحظى اليوم ببركة الجميع: فالسُنّة عادوا إلى مبدأ لبنان أوّلاً، والشيعة يقاتلون «داعش» في سوريا، والدروز لا مانعَ لديهم، والمسيحيون مع هذا الخيار، ولعلَّ انضمامَ لبنان الى هذا الحلف يعود عليه ببعض المكتسبات.

«القاعدة الذهبية»

بعد الانتهاء من جحيم «داعش»، ستُقوّم مراكز الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجيّة وكبار الديبلوماسيين هذه المرحلة، مع مقارنتها بالمراحل الماضية، ليرصدوا التبدّل في السياسة الخارجية اللبنانية.

وفي هذا السياق يؤكّد المُتخصِّص في العلاقات الدوليّة الدكتور وليد الأيوبي لـ«الجمهورية» أنّ «لبنان سار منذ الاستقلال على صيغة لا شرق ولا غرب، فتخلّى المسيحيون عن تطلعاتهم الغربية الأوروبية، فيما تنازل المسلمون عن المطالبة بالوحدة القومية العربية، وعلى هذا المقياس نستطيع قياس السياسة الخارجية، حيث شكّلت بوصلة وقاعدة ذهبية»، لافتاً إلى أنّ «لبنان الرسمي حاولَ الحياد عن هذه القاعدة الذهبية عندما شاء الرئيس شمعون الدخولَ في حلف بغداد، ما أدّى إلى شرخ، وثورةٍ عام 1958».

ويشير الأيوبي إلى أنّ «الفترة الشهابية هي من أكثر الفترات التزاماً بهذه القاعدة، حيث اتّبع الرئيس فؤاد شهاب سياسة الحياد الإيجابي، لكنّ خلط الأوراق حصل بعد السبت الأسود في الأردن ونزوح الفدائيين الفلسطينيين إلينا وتوقيع اتّفاقية القاهرة، وعشنا تخبُّطاً حتى عام 1975، تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية، حيث ضُربت هذه القاعدة، فبات لبنان ساحةً مثل العراق وسوريا حاليّاً».

ويُؤكّد الأيّوبي أنّ «الطائف أتى ليُكرِّس انحيازَ لبنان إلى العالم العربي، وسوريا تحديداً، ما شكّلَ نقيضاً للصيغة في السياسة الخارجية، وتزامنَت هذه المحطّة مع صعود الأصوليات الإسلامية وانهيار الاتّحاد السوفياتي والثورة الإيرانية، بعدما كان المَدّ الإسلامي موجّهاً لمحاربة الشيوعية»، مشيراً إلى أنّ «الإسلاميين لهم عدوّان: الشيوعية التي انهارت، والأنظمة المدنية الشبيهة بنظامنا».

وبالنسبة إلى السياسة الخارجية اللبنانية الحاليّة، يرى الأيوبي أنّ «الخطاب متضخّم جدّاً وأكبر من حجم لبنان، وعندما نسمعه نرى فرقاً شاسعاً بين الخطاب وقدراتنا، إذ يذكّرنا بالسوريالية السياسية، فالجيش العراقي لم يصمد أمام «داعش»، وسوريا لا تستطيع حسمَ القتال».

«لسياسةٍ جنبلاطية»

ويلفت إلى أنّ «لبنان يعيش اليوم ارتباكاً شديداً بين رغبةٍ داخلية بالتزام صيغة 1943 وبين الواقع الضاغط الذي تفرضه الأصوليات، والأفضل كان اتّباع سياسة خارجية «جنبلاطية» لأنّها حكيمة وواقعية»، معتبراً أنّ «خطاب السياسة الخارجية يحتاج إلى ترشيد وعقلنة وابتعادٍ عن الارتجال».

ويلاحظ الأيوبي أنّ «لبنان لم يكن مضطرّاً للدخول في أحلاف»، مؤيّداً مبدأَ المقايضة لاسترجاع العسكريين، وسائلاً أين كانت هيبة الدولة في معارك طرابلس وفي منع استمرار الاغتيالات السياسية، ووقفِ الخروق الإسرائيلية»، لكنّه يؤكّد في المقابل أنّ لبنان «لم يدخل الفَلك الأميركي بل هناك تقاطعات»، لافتاً إلى «وجود ضوء أخضر سوري – إيراني للدخول في الحلف، لأنَّ هذا المحور خارجَه رسمياً، لكنّه في الواقع معه».

بين الإيديولوجية والدموية

بين الأمس واليوم، ضياع ديبلوماسي، وحماسة غير مدروسة، فعندما اعتُمد مبدأ أيزنهاور عام 1957، كانت أميركا مستعدّة لمساعدة حلفائها، وأرسلت قوّاتها إلى لبنان، أمّا الآن فهناك شبه تراجع، وكلّ ما تفعله هو إرسال طائرات ومساعدات إلى لبنان، وسط مخاوف من تغلغل «داعش» إذا لم يتمّ القضاء عليه، أو تسهيل النظام السوري عبورَه إلى لبنان ضِمن سياسته المعتادة بتصدير الفوضى والإرهاب.

لذلك، يؤكّد أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اليسوعية والأمين العام لحزب «الوطنيين الأحرار» الياس أبو عاصي لـ«الجمهورية»، أنّ «أوجه الشبه مختلفة بين عام 1958 والآن، ففي ذلك الوقت كان الصراع إيديولوجيّاً، أمّا اليوم فهو أكثر ضراوةً ودموية مع «داعش»، معتبراً أنّ «دخول لبنان هذا الحلف حاليّاً هو أكثر إلحاحاً من عام 1958 لأنّ الإرهاب يستهدفنا».

وعن التقديمات للبنان، أوضحَ أبو عاصي أنّ «المبدأ واضح، والدوَل المتحالفة لا تنتظر أيّ عمل عسكري منه، لذلك، علينا تعزيز الجيش والالتفاف حوله». ويشدّد على أهمّية أن «يعزّز التحالف قدرات الجيش لمواجهة التحدّيات»، مُذكّراً بأنّ «إنزال 58 أتى بعد خوفٍ على العرشَين العراقي والأردني، وليس لدعم لبنان فقط»، مشيراً إلى أنّ «الرئيس شمعون كان حليفاً للغرب، ونتمنّى أن يعود لبنان كما كان في عهده».

ويدعو أبو عاصي «المسيحيين إلى الوقوف مع الجيش والدولة لأنّها خيارهم الوحيد»، نافياً «أيّ ارتدادت سلبية بعد تنفيذ الضربات، لغياب البيئة الحاضنة، سوى من بعض المجموعات التكفيرية»، مشيراً إلى أنّ «موقف «حزب الله» الرافض الدخولَ في الحلف، هو من موقف إيران».

الانعكاسات الاقتصادية

قد تكون الضربات على «داعش» خاطفة، وعدا عن ارتداداتها العسكرية فقد تنعكس على الاقتصاد اللبناني الرازح أساساً تحت عبء النزوح والركود.

وفي هذا السياق، يُطمئن الخبير الاقتصادي الدكتور مروان إسكندر عبر الـ«الجمهورية» إلى أن «لا ارتدادات سلبية على الاقتصاد بعد دخول لبنان هذا الحلف، لأنّ الدوَل المنضوية تحته هي دوَل ميسورة»، لافتاً إلى «حصول تقدّم لأنّ بعضاً من الدوَل المناهضة للحلف تُفاوض الآن مع الأميركيين، وعلى رأسها إيران».

ويرى إسكندر أنّه «يمكن للبنان الإفادة إلى حدٍّ ما من هذا الحلف من خلال تسليح الجيش»، مشيراً إلى أنّ «لبنان عام 1958 لم يدخل حلفَ بغداد، وحصلت الثورة على الرئيس شمعون عندما شعرَ البعض بأنّه سيصبح جزءاً من التحالف، أمّا نزول قوّات المارينز على شواطئ الرملة البيضاء، فلم يكن لأسباب لبنانية حصراً، بل كان خوفاً على العرشين العراقي والأردني».

ويؤكّد إسكندر عدم ارتفاع أسعار البترول جرّاء الضربات على العراق، «لأنّ أوروبا، القارّة الصناعية، تعاني ركوداً»، مرجّحاً «ثباتَ الأسعار تزامُناً مع الضربات على العراق».a