الرزنامة اللبنانية تتقدّم على كل ما عداها في هذه الآونة، حيث لا يعلو صوت على ضجيج المعارك الانتخابية الطاحنة والضاربة في طول البلاد وعرضها. وذلك يحدث في ظلّ وضع حكومي يمشي ويتعثّر بظلال وزرائه، ومعظمهم بدأ يعاني من حالة انفصام في الشخصية، بين ضغوطات واقعه الانتخابي من جهة ومسؤولياته الوطنية ومتطلبات منصبه الوزاري ومصلحة الحكومة مجتمعة، من جهة ثانية. مناقشات الموازنة العامة مثالا، وهي تُسلق على عجل، وتصطدم بحاجزين. أولهما، واقع تراكمي متعاظم من الأخطاء والارتجال وسوء التخطيط وعقم ادارة المال العام بجهل متعمّد أو بسوء نيّة لا فرق! وهو واقع متخبّط ومستمر لأكثر من عقدين ونيّف من الزمن. وثانيهما، وضع قاعدة مرتجلة وبليدة لتخفيض نسبة العجز في الموازنة العامة، بنسبة عشرين بالمائة على العمياني وتشمل الوزارات كافة، دون تفرقة ولا تمييز. وكان الأجدى وضع قاعدة ذكيّة ومرنة بحيث يشمل التخفيض الموازنات المنتفخة بالهدر والفساد لبعض الوزارات، حتى ولو وصلت نسبة الخفض الى عشرين وثلاثين بالمائة، وعدم تخفيض وربما تعزيز موازنات الوزارات التي تعنى بالشؤون الصحية والاجتماعية للمواطنين…
العمق الاستراتيجي للبنان هو عمقان. الأول هو عمقه الضارب في القِدم في بلدان الانتشار اللبناني على مدار الكوكب. والالتفات الى هذا العمق كان تقليديا اهتماما موسميا وسطحيا، ودون وضع أسس راسخة ودينامية لاحداث هذا الربط العضوي بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر. وان سُجلت في الآونة الأخيرة ومنذ شهور بداية صحوة في هذا الاتجاه، وهي وان كانت ضرورية إلاّ أنها غير كافية. والعمق الثاني الحقيقي للبنان هو مداه العربي، وليس له عمق فاعل آخر، لا في أوروبا ولا في العالم. غير أن هذا العمق العربي هو اليوم في حالة من انعدام الوزن والتأثير، بسبب حالة التشتت والتنابذ والتقاتل المخيّمة عليه من المحيط الى الخليج. ومن أولى المهمات وأكثرها أهمية بعد الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة الجديدة، ان يقتحم لبنان الأرجاء العربية بمبادرة مصالحة بعد المصارحة. وان يقدم على هذه المبادرة بالتعاون مع دول عربية أخرى. وأكثر ما يصلح لهذه المهمة كنقطة انطلاق بلدان عربيان هما: لبنان والكويت لتشكيل نواة مع دول عربية أخرى تضع برنامجا صلبا لانجاز المصارحة والمصالحة على المستوى العربي القومي… وكل من سار على الدرب وصل!