نشهد هذه الايام حالاً من التشتت والضياع وعدم القدرة على المتابعة الدقيقة للحشود العسكرية والتهديدات والخصومات والعقوبات وذلك نتيجة طبيعية لتطور مجتمعات النزاع،التي ألِفَت القتل والدمار وترويع الناس وتشريد النساء والأطفال، وحيث يصار الى تكوين السلطة على اساس ادارة النزاع، حتى بتنا نعاني من الخواء السياسي ولا نعرف كيف نتابع الأحداث او كيف نتحاشى الاسوأ من الاحتمالات مع عدم معرفة تحديد الاولويات، ومنذ ما يقارب المئة عام والمنطقة تعيش حالات من النزاعات المتراكمة حتى أمست ثقافة سائدة بأدواتها وأدبياتها، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والدينية تتحول الى موضوعات نزاع ينقسم حولها الناس الى حد الاقتتال، ويسود الاعتقاد بأن شعوبنا باتوا يفتقدون إلى صنّاع السياسة الذين ينشغلون بالبحث عما يريده الناس من تقدم واستقرار وبالاعتراف بحقهم بالحياة كبشر أسوياء يفكرون ويشعرون ويرغبون ويرفضون.
إن صنّاع السياسة هم أولئك الرواد الذين يتقنون صياغة المشاعر والرغبات والافكار العامة المتناثرة في قالب انساني متماسك عابر للعقول والمعارف والمدارك والتخصصات والحرف والمهن والأجيال، وإن صناعة السياسة هي حسن الاصغاء والالتقاط والتقبل والبحث الدائم عن الخلاص والامان ومنع الكوارث والحروب والمجازر والدمار والعيش بسلام، والسياسة هي ذلك النهم البشري في التعلم والتنور والمغامرة والاكتشاف والتنبه والدهشة واحترام الحواس، والسياسة هي تلك المسافة بين البصر والتبصر والسمع والإصغاء والذوق والتذوق واللمس والملامسة وتحويل الحواس البشرية الى جسور معرفة وحوار، والسياسة هي ذلك الأثر الإيجابي الفردي والعام على الانسان والمكان والزمان.
ان صناعة السياسة هي القدرة على تجديد قيم التسامح والتوافق والتكافل والتراحم والإنصاف والمصالحة، والسياسة هي الرضى والقبول والتكييف وشجاعة الإقناع والاكتفاء وتحويل الأحلام الى وقائع وانجازات وتحرير العقل من الغرائز وصناعة الاوهام، السياسة هي إنسان زائد إنسان زائد إنسان يساوي شعوباً ومجتمعات وتوجهات وخيارات واستشرافات واحتمالات وتوقعات وتفاعلاً وتجدداً وانسياباً وانتظاماً وتراكم اجيال وتجارباً وانجازات، والسياسة ليست غنائم وولاءات واستتباعات وعصبيات قبلية وطائفية ومذهبية، السياسة هي القدرة على قبول الاخر والانصهار المجتمعي في الدولة الوطنية والانتظام في قواعدها ومؤسساتها العامة والعمل على تحديث وتطوير قدرتها الاستيعابية وتكيفها مع المستجدات الانسانية والمعرفية.
لا بد من الاعتراف بمدى صعوبة تحديد اتجاهات المواجهات الكبرى في المنطقة وطبيعتها ونتائجها وهل هي حرب أم ملهاة ، وهذه المرة الاولى في تاريخ النزاعات التي تكون فيها كلفة المفاوضات ليست اقل من كلفة الحرب، بالاضافة الى عدم القدرة على معرفة مداها الزمني أياماً أم أشهراً أم سنوات وهذه المواجهة المستجدة تقوم على قواعد جديدة مغايرة لكل أشكال وأسباب النزاعات التي شهدتها المنطقة منذ مئة عام من حيث التحالفات والخصومات والموضوعات والاهداف والتوقيت ايضا، ولا بد من الاعتراف بحالة الضياع العامة لدى الاعلام والزعامات والقيادات وأشباه الشخصيات العامة في المنطقة ولبنان الذي يشهد ما يشبه المجاعة السياسية ويحتاج الى الكثيرين من صنّاع السياسة والانتظام العام .