IMLebanon

لبنان وسورية بعد تحرير الجرود

 

بطرد «القاعدة و «داعش» من جرود بلدات عرسال ورأس بعلبك والقاع يتخلص لبنان من احتلال إرهابيين أرضاً كانوا يحضّرون فيها عمليات تفجير تُنفّذ في البقاع وفي مناطق أخرى بينها بيروت. إنها عملية تحرير وطنية بعثت الارتياح في المواطنين القريبين من المناطق المحررة والبعيدين عنها. أما في السياسة فلا إجماع، لأن زعماء لبنان لا يضحكون معاً ولا يبكون معاً، وقد صار مشهداً عادياً أن ترى أحدهم يبتسم في مأتم أو يبدو عبوساً في حفلة عرس. تلك وظيفتهم ولعبتهم المتجدّدة منذ الاستقلال، بل منذ الانتداب ونشوء الكيان. وربما يكون إعلان الرئيس ميشال عون أمس انتصار لبنان على الإرهاب وإهداءه الانتصار إلى جميع اللبنانيين وتهنئته قيادة الجيش وانحناءه أمام الشهداء، من باب عرقلة تشويش السياسيين على الحدث الوطني، خصوصاً في قوله: علينا حماية هذا الانتصار بالتقارب الوطني والانكباب على المشاريع الاقتصادية والإنمائية لمواكبة تطلعات اللبنانيين وآمالهم. الحرب هنا مرحلة يتبعها بناء وإنماء، وليست حدثاً بلا نهاية يبحث عنها المحترفون في أزمات قريبة أو بعيدة فيجدونها، وتعلو دعواتهم إلى استقطاب المقاتلين والمؤيدين، كأن حياة البشر مجرد ساحة قتال.

مع تحرير الجرود الذي كلّف شهداء تصبح سلسلة جبال لبنان الشرقية المتاخمة لسورية، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، خارج أيدي الإرهاب. وهذا لا يعني بالضرورة تجديداً للصداقة بين النظامين اللبناني والسوري، بقدر ما يؤشر إلى بؤس أو ضعف أو سوء تقدير أو سوء حظ المعارضة السورية التي حيثما وجدت في بلادها لا تستطيع إعلان وجودها حقاً، إنما تصبح تابعاً مقموعاً لمجموعات متطرفة أو إرهابية تخرّب حياة السوريين وتدفعهم إلى الهرب وتقلق حدود الدول المجاورة.

منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920 واستقلاله عن الانتداب الفرنسي عام 1943 لم تكن العلاقة طبيعية مع الدولة السورية المنتدبة والمستقلة. وكانت دمشق ترفض أي تبادل ديبلوماسي بين البلدين من باب أن الوطنين توأمان، أو كما أعلن حافظ الأسد في وقت لاحق صيغته الذهبية: شعب واحد في دولتين. واحتاج الأمر عقوداً لبدء علاقة ديبلوماسية بين دمشق وبيروت بعد لقاء ميشال سليمان وبشار الأسد في باريس في تموز (يوليو) 2008 برعاية نيكولا ساركوزي. وحتى بعد افتتاح السفارتين تلجأ الحكومتان إلى الاتصال المباشر بما يعني تفريغ الديبلوماسية من وظيفتها والاستئناس بالعادة القديمة المستندة إلى التوأمة. هذا الوضع غير الطبيعي تتحمل مسؤوليته سورية حكماً ومعارضة، لأن وصاية دمشق على بيروت شغلت معظم سنوات استقلال البلدين، فصار الحاكم في دمشق يعرف تفاصيل السياسة والمجتمع والاقتصاد في لبنان أكثر مما يعرف هذه المجالات في بلده، ومثله المعارض السوري المولع بمؤيديه اللبنانيين أكثر من ولعه المفترض بالنضال من أجل الحرية والديموقراطية والسلام الاجتماعي في بلده. ولهذا فشل النظام مثلما فشلت المعارضة في الحد من الخراب الذي شوّه صورة الإنسان السوري المشهود له بالذكاء والإقبال على العمل وتجويده مثل سائر الشعوب المتحضّرة.

حرّر اللبنانيون أرضهم من الإرهابيين، لكن علاقتهم بالنخبة السياسية السورية حكماً ومعارضة لم تجد مستقراً طبيعياً، فالمشكلة معقّدة، ربما لأن السوريين لم يتقبّلوا بعد لبنان وطناً مستقلاً، ولأن اللبنانيين لم يصلوا إلى وعي وطني يعادل تجربة عيشهم القائمة على الحرية والانفتاح على الشرق والغرب. والأكثر تعقيداً أن سورية غير المعترفة بلبنان لم تعترف حتى بنفسها فليس لدى السوريين إجماع على وطنهم وهم لا يعرفون له وصفاً محدداً ولا مساحة معروفة. إنه القطر العربي السوري القابل للامتداد في لبنان والأردن وفلسطين والعراق، بل إنه سورية الصغيرة التي تحتقر نفسها لعجزها عن توحيد الوطن العربي الكبير من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، كما قال يوماً شاعر سوري مادحاً جمال عبدالناصر الوحدوي.

ولكن، الآن هنا، لبنان باقٍ وقد تحرّر من الاحتلالين الإسرائيلي والإرهابي، وسورية لم تستعد وحدتها التي طالما رأتها مجرد جزء من كلٍّ عربي لم يتحقّق. لبنان باقٍ ولكن محاطاً بأخطار ثلاثة، إسرائيل وعدم رضى السوريين عن سورية، واستخفاف بعض اللبنانيين بوطنهم.