IMLebanon

لبنان لاعباً وسوريا ساحة؟!

كثيرة هي الفرضيات والتحليلات حول الغارة الاسرائيلية على القنيطرة. وهي تتدرج من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً.

في أسفل سلمها أن نتنياهو يلعب لعبة انتخابية أخرى. تماماً كما اعتاد هو وأسلافه، في أكثر من محطة حربية عشية استحقاق انتخابي. أو إزاء أوضاع اسرائيلية داخلية، يُستدرج العامل الخارجي لتنفيسها أو لتوجيهها ناحية أو أخرى. في هذه الحالة، يمكن لمروحة ردود الفعل المرتقبة، أو المطلوبة والمرغوبة، أن تكون واسعة جداً. بحيث يعود الأمر إلى نتنياهو نفسه، وإلى تحديده لأي مستوى من الدم يراه مناسباً لرفع مستوى شعبيته.

أو أي عدد من الضحايا يعتبره الأمثل للعدد الأقصى من الأصوات التي يريد. وفق معادلة النسبة والتناسب بين «صناديق موت الأعداء وصناديق اقتراع البسطاء».

في درجة أعلى من فرضيات التحليل، أن الكيان الصهيوني يوجه رسالة إلى واشنطن عبر القنيطرة. لتكون الغارة الاسرائيلية فعل اعتراض اسرائيلي على التوجه الأميركي صوب إيران. وبالتالي رسالة احتجاج من قبل تل أبيب، ضد تقارب واشنطن طهران، وضد أخبار الاتفاق المنجز أو الوشيك، وضد كل نظريات إعادة رسم خريطة المنطقة وحدود نطاقات نفوذها، على قاعدة الصفقة بين «شيطان أكبر» و»شر أكبر» سابقين. وهنا تتعدد القراءات أو تتوالد. كأن تكون اسرائيل في صدد محاولة إسقاط التقارب كلياً، أو محاولة تعزيز أسهمها فيه ضمن مقاصّته المقبلة. أو أن تكون القيادة الصهيونية تستخدم صندوق بريد الدم الإيراني – الحزبللاهي، لتحريك معادلات أخرى في سياق المشهد الشرق أوسطي الجديد، من نوع البحث في كلية الصورة: ماذا عن أدوار القوى الباقية، من تركيا والسعودية إلى مصر؟ وماذا عن أوضاع سوريا ولبنان والأردن، وفلسطين نفسها، كما سواها من الملفات التي تعني الكيان الصهيوني؟

أياً كانت نيات اسرائيل خلف فرضية «الزكزكة» الإضافية لأوباما، يظل مرجحاً أن تؤدي إلى ضبط ردود الفعل على الغارة. إن ليس من الجانب الاسرائيلي، فمن الجانب المقابل على الأقل. مع قدرة ومصلحة أميركيتين أكبر في الضغط لذلك. وهو ما ظهر بعض معالمه عبر مواقف الشجب الأممية للعدوان الاسرائيلي. علماً أن واشنطن تدرك تماماً كم أن هذه المنطقة من سوريا صالحة لأن تكون صندوق بريد أميركياً سريعاً. فهي في وضعيتها الأمنية والعسكرية والقانونية الدولية، وصولاً إلى وضعها السياسي الواقعي، نتاج دبلوماسية واشنطن منذ العام 1973.

لكن ثمة درجة أخرى وأعلى من سلم فرضيات التحليل، ومفادها أن يكون هناك اتجاه كامل إلى «ضبضبة بعض الانفلاشات»، وتحديد بعض الأحجام، تمهيداً لتسويات انطلقت بشكل كامن أو معلن. ماذا لو كانت واشنطن، ومعها موسكو مثلاً، ولو بغض نظر أو تقاطع حسابات، قد قررتا ترتيب بعض الساحات المتفجرة، ومنها دمشق. وهو ترتيب يقضي بإعادة رسم الموازين والقوى. وفي هذا السياق، ماذا لو كان الحجم الإيراني – الحزبللاهي قد أضحى أكبر من أي تسوية ممكنة؟ فطهران التي تمتد تلقائياً في الخليج، وطهران التي تحسم في اليمن، بين حدود عسير السعودية – اليمنية سابقاً، وبين باب المندب، ثاني نوافذ النفط الخليجي على العالم، وطهران التي باتت شريكاً كامل الشراكة في دمشق، بحسب رؤية الثنائي الأميركي – الاسرائيلي، وطهران التي عجزت كل محاولات الاحتواء المزدوج والمتعدد، من احتضان تركيا لـ «داعش» إلى احتضان اسرائيل لـ «النصرة»، في ضبطها … هذه الطهران لم تعد تناسب حسابات اسرائيل طبعاً. لكنها أيضاً لم تعد تناسب حسابات أميركا، وربما روسيا، وربما غيرها من الجهات المعنية بالتسويات، أو الراغبة في إنجازها قبل الإنهاك أو الزوال؟!

في هذه الحال، تكون غارة القنيطرة مفتوحة على احتمالات التصعيد الأعلى سقوفاً وعنفاً. ذلك أنها تطرح على طرفي الصراع، ومن معهما وخلفهما، سيناريو من نوع الحرب الوجودية والصراع البقائي. وهو السيناريو الذي قد يحمل الإرهاصات الأكثر سوءاً لمرحلة ما بعد القنيطرة.

غير أنه وسط تلك الفرضيات المختلفة والمتعددة، تظل ثمة مسألة لافتة، لا بل تلامس المفارقة. إنها العلاقة بين هذا المثلث اللبناني – السوري – الاسرائيلي. فعلى مدى عقود، كانت ثمة معادلة مسلم بها من قبل الأطراف الثلاثة، ولو من دون إعلان أو حتى بخجل وعيب، مفادها أن لبنان هو الحلقة الأضعف في هذا المثلث. وبالتالي فإن أي تبادل اسرائيلي – سوري، يكون على حسابه، لا بل على أرضه. حتى باتت هذه المعادلة قاعدة شبه قانونية دولية، منذ العام 1990 حتى العام 2004. السوري يستخدم جبهة جنوب لبنان لتبادل الرسائل مع العدو، كما كل من يقف خلفه. واسرائيل تحصر ردود فعلها في الساحة اللبنانية، من باب «التعامل بالمثل». قاعدة بدا واضحاً أنها سقطت بعد خروج الجيش السوري من لبنان. وكان أول مؤشر لسقوطها ذهاب الطيران الاسرائيلي إلى قصف شمال سوريا في أيلول 2007. غير أن سقوط تلك القاعدة لم يتوقف عند هذا الحد. بل تدهور أكثر بعد اندلاع الأحداث السورية، وبعد دخول حزب الله طرفاً في تلك الحرب. حتى أن الأدوار انعكست كلياً، في ثلثي المثلث السابق. لبنان لم يعد صندوق بريد. ربما لأنه لم يعد الضلع الأضعف. سوريا تحولت ساحة لكل حروب المشرق. وحدها اسرائيل ظلت تحتفظ بدورها، المعتدي، قبل وبعد.