طوال ولايتي جورج بوش الإبن، كانت الولايات المتحدة تتصرّف بجموح وتهوّر وكان على العالم الخارجي بالنسبة اليها أن «يستوعبها» بشكل أو بآخر. وإلى حد كبير، انقلبت الآية في ولايتي باراك أوباما، صار العالم الخارجي يبدو جامحاً ومتهوراً وعلى الولايات المتحدة أن «تستوعبه»، أو في الحد الأدنى أن تأخذ مسافة منه. بعد ولايات بوش الإبن وأوباما الأربع (ستة عشر عاماً بالمحصلة)، يأتي دونالد ترامب بمعادلة لا يُعرَف حد فاصل للمعقول عن اللامعقول فيها: أسباب الجموح ليست بصدد التراجع في العالم الخارجي بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لا جموح السياسة الروسية في أوكرانيا أو في سوريا، ولا جموح طائفة من الشعبويات في العالم، داخل وخارج بلدانها، ولا جموح الشبكات العدمية الدموية العابرة للبلدان، ولا الجموح الصناعي الصيني الذي له نصيب وافر من التعريض بالبيئة العامة لكوكب الأرض، وبالتوازي، تأتي وعود ترامب الجامحة في الداخل الأميركي وبالنسبة إلى الخارج. فمن الذي يفترض به استيعاب من الآن؟ أم تتجه الأمور بشكل أو بآخر نحو استيعاب الجامحين لبعضهم البعض، نحو توازن الجموح، توازن المتهورين؟!.
للسؤال حيثيته سواء استمر دونالد ترامب في ولايته – الأولى – بشكل طبيعي، أو كبرت كرة الثلج التي تحرّك ضدّه، من أجهزة استخباراتية أميركية، ومن قوى ضاغطة وحركات ميدانية، أو واجه تعقباً قضائياً بحقه، ناهيك عن المسألة التي من الخطأ اعتبارها وراءنا، وهي التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية. فلترامب مجال واسع لممارسة شطحاته، ما دامت أميركا نظام رئاسي. لكن في أميركا أيضاً سلطة قضائية لعلّها أقوى السلطات القضائية في العالم، ومعركة ترامب على الجبهة القضائية لها عناوين عديدة، منها أيضاً التعيينات المنتظرة في المحكمة العليا.
الجموح الأكبر في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط يتعلق بما ستقرّره الإدارة الجديدة وما يمكنها أن تصنعه حيال الإتفاق النووي الإيراني – الأميركي. في هذا الملف بالتحديد، ترامب ليس معزولاً لا داخل حزبه، ولا ضمن مروحة واسعة من نواب الحزب الديموقراطي وشيوخه. لا أحد يريد انهاء الإتفاق بشكل فجائي ومتهور، لكن الشعور بأن الإدارة السابقة دخلت في مسار دون محاذير وغير متمم بالضمانات التقنية والزمنية المطلوبة، ولا بآليات المراقبة الدقيقة له، هو شعور يتقاسمه خبراء كثر، ومرجعيات سياسية عديدة في الولايات المتحدة، وقسم كبير من الرأي العام.
من هنا، ما سيتضح بالنتيجة، في الأسابيع والشهور المقبلة، أنّ الإدارة هي بصدد تقريره في شأن المسار الأميركي – الإيراني له أهمية قصوى بالنسبة الى مسارات الشرق الأوسط ككل. أما في ملفات الشرق الأوسط الأخرى، فمن غير الوارد حتى الآن الانتقال من صيغة الحرب الجوية ضد «داعش» الى أي صيغة برية أميركية جديدة في المنطقة. وعلى هذا الأساس، أياً كانت تركيبة الخطاب الرسمي الأميركي من الآن فصاعداً حول القضايا الإقليمية الأخرى – غير مسألة ايران -، فليس لها المكانة نفسها، وستبقى أقرب إلى «تصريف الأعمال»، بانتظار أن يلوح الموقف الجديد الحقيقي من ايران ومن الإتفاق معها، وكيفية تفاعلها مع هذا الموقف، خصوصاً اذا ترافق ذلك مع تخفيض لمنسوب التوتر في العلاقات الروسية – الأميركية، والتركية – الأميركية.
أمّا بالنسبة الى العلاقات الأميركية – العربية، ومنها الأميركية – اللبنانية، فإنّها لن تكون بمنأى عما يمكن أن يبادر اليه دونالد ترامب من أقوال واجراءات مشابهة لما ساقه خلال الحملة الانتخابية من عبارات كراهية وانفعالات ليس مناسباً أن يتاح لشخص يكثر منها الوصول الى رئاسة أقوى دولة في العالم، زد على أنها دولة تتبع النظام الرئاسي. طبعاً، ما يمكن أن يبادر اليه ترامب من خطوات في ما يتعلق بالنزاع الفلسطيني – الاسرائيلي على جانب من الخطورة. ليس الرئيس الأميركي الوحيد الذي وعد قبل وصوله بنقل السفارة الأميركية الى القدس، لكن كل الرؤساء السابقين لم يفعلوها، والتزموا بمناخ المؤسسة الحاكمة الأميركية غير المؤاتي لهذه النقلة. لا شيء مضمونا في ظل ترامب، خصوصاً من هذه الناحية.
لكن الأسابيع والأشهر المقبلة هي لتوجيه الأنظار الى ما سيقوم به ترامب حيال ايران. المحدّد الرئيسي لسياسته في الشرق الأوسط يبقى ايران. ليس صحيحاً أن كل ما نطق به ترامب أثناء الحملة الانتخابية سيتخلى عنه الآن. صحيح أنه بين الكلام، المرتجل في الكثير منه، وبين الفعل، ثمة مسافة غير يسيرة، وأنّ الرجل ليس وحده، وإن لم يكن كل من معه من فئة «الفرامل» بل ثمّة من هو أكثر تهوراً منه، لكن في نهاية الأمر، الشيئان الوحيدان الواضحان، والثابتان، في كل ما قاله ترامب منذ عام والى الآن، هما: تفكيك نظام الرعاية الصحية «اوباماكير»، ومراجعة الاتفاق النووي الأميركي – الايراني. هو باشر تفكيك الـ «أوباماكير» منذ لحظة وصوله، وأياً كانت الحسابات يتعذر أن يمرّ الاتفاق النووي من دون مراجعة. هذه المراجعة هي محدّد أساسي، وبالنسبة إلى لبنان الذي تحضر فيه المسألة الإيرانية من خلال نمط وجود «حزب الله» داخله وخارجه، فإنّ إحتمالات «احتواء» الحزب أو عدم احتوائه، بأي شكل للاحتواء كان، متعلقة بمآل هذه المراجعة.