IMLebanon

لبنان.. ولعنة الفراغ ؟!

في اقلّ من شهرين خسر لبنان، اربع قامات كبيرة، عالية الجبين في عطاءاتها كل في ميدانه، رافقوا جميعهم القرن العشرين، ومع دخولهم القرن الواحد والعشرين، لم ينتبهوا الى قلوبهم المتعبة، انشغالهم بالعطاء والخدمة، صرفهم عن الاهتمام بالذي حملهم طول مشوارهم الطويل، فبدأوا يسقطون الواحد تلو الاخر، والسيد هاني فحص، اصغرهم سنا، كان الاول في الترجّل من الحياة، ولحقت به صباح، وسريعا تبعتها نهوند، وبعدهم رأى سعيد عقل، ان الوقت قد حان لرؤية وجه يسوع وامّه، فصعد الى حيث سبقه الاخرون، الى ضيافة ملك الكون وربّ الارباب، حيث الابرار والصدّيقين، ممّن حافظوا كل الوزنات التي اعطاها لهم سيدهم.

هاني فحص كرّس عمره لخدمة الدين القويم، والمحبة والتفاهم بين الناس، ونصرة الحق والمظلومين، وقد بكّر بالتعب والرحيل، وترك وظيفة شاغرة تنتظر ان يملأها كبير مثله.

صباح الحزينة في معظم فترات حياتها، حوّلت حزنها الى رسالة فرح، تمرّرها يوميا، وفي كل اغنياتها، الى المحزونين والمرضى واليائسين، والمحبطين، تقول لهم فيها، الحياة حلوة، السعادة كنز، القناعة غنى، على قاعدة ما قاله يسوع «لا تكنزوا لكم كنوزا في الارض» وذهبت الى يسوع من خرم ابرة الفقر.

نهوند صاحبة الصوت الذي قال فيه عمر الزعني انه «الاجمل في الاذاعة اللبنانية» لم تأخذ حقها كاملا في لبنان، وعلى الارض، امّا في جوقة السماء، فسيكون لها شأن وحق، علما بأن وزارة الثقافة وعدت بأنها ستعوّض عليها بجمع اعمالها ونشرها.

سعيد عقل الذي يصحّ به قول الشاعر «هيهات ان يأتي الزمان بمثله ان الزمان بمثله لضنين» يمكن القول انه اختصر بشخصه كل ما في لبنان من جمالات، فهو موسوعة قائمة بذاتها، في الشعر، والنثر، والتاريخ، والمعلومات، والروحانيات، والإلقاء، والسياسية، والكرامة والعنفوان والشجاعة، والجرأة، وفي الذوبان الكامل بالله ولبنان، وللذين يحملون اليوم سكاكينهم، في وجه من اصبح الان في دنيا الحق، اقول ان هناك العديد من المواقف المشرفة التي تحمي سعيد عقل من ألسنة السوء، لكنني اكتفي بواحد منها لأذكّر هؤلاء، ان سعيد عقل عندما جبنت الدولة عن مواجهة اسرائىل، في حرب الـ 67، ذهب ا لى تلفزيون لبنان واعلن الحرب على اسرائىل نيابة عن الدولة، لذلك الاجدى بكم ان تصمتوا الان، بدلا من ان تصمتوا اثناء الاحتلال الفلسطيني المسلّح الذي دمّر لبنان، كما صمتّم عندما فاخر ياسر عرفات انه حكم لبنان سبع سنوات متوالية.

***

في النتيجة المؤلمة، ان الكبار المبدعين الذين حوّلوا لبنان في القرن الماضي الى جنّة من الثقافة والفن والفكر والسياسة والرسم، والشعر والمرسح (كلمة كان يحبها سعيد عقل) بموازاة تقدّمه في الاقتصاد والادارة والطبّ والمال، بدأوا يرحلون، وفي صدورهم غصّة، وفي قلوبهم اختناق، ان لبنان الذي ارادوه سويسرا الشرق في كل شيء، يعيش منذ فترة طويلة اياما عصيبة وحزينة، وخوفا دائما، وقلقا مذعورا «على المصير، وشحا في الموارد، وخللا في المجتمع، ونضوبا في الرجال، واذا كان الموت حقا وسنّة من سنن الطبيعة، الاّ ان موت الكبار من جهة، والفراغ الكبير في كل زاوية من جهة ثانية، يجعلان يأسنا اكبر وتشاؤمنا اوسع.

رحم الله كبارنا الراحلين، وابقى لنا كبارنا الباقين، وانعم علينا، بمن هو قادر على حمل مشاعلهم وسدّ فراغهم، وساعدنا على الخلاص من مسؤولينا الذين يخافون حتى من تكريم من اغنوا لبنان بعطائهم.