خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في تسعينيات القرن الماضي، وعلى غرار معظم القادمين الجدد، قمت بزيارة غابات الأرز الجميلة في بشري والشوف. ومنذ ذلك الحين، حظيت بفرص عديدة لتقدير أوجه التشابه بين لبنان ورمزه الوطني. الأرزة تجسّد القوة والصمود والمرونة وقد أمّنت المأوى والموارد للعديد من الحضارات المختلفة على مدى آلاف السنين وصمدت على مر التاريخ أمام أشد الأزمات والمحن.
لبنان يواجه اليوم، كأرزه، اختبار التحمّل. عندما بادر لبنان إلى فتح حدوده أمام العائلات الهاربة من النزاع السوري في العام 2011، استجاب مجتمعه من دون تردد وقدم الترحيب والمأوى والخدمات والدعم حتى وإن كانت احتياجاته الخاصة ماسّة في العديد من الحالات.
وعلى مدى أربع سنوات من الصعوبات المتزايدة، كانت الأسر اللبنانية من بين أكبر المانحين لجهود إغاثة النازحين حتى الآن. تستضيف المجتمعات الفقيرة نحو مليون ونصف نازح إضافي وتشاركهم الأرض والمدارس والموارد المائية والمراكز الصحية. حتى أن الكثيرين من هذه المجتمعات يشاركون النازحين منازلهم.
ومع بداية العام 2015، وصلت جميع المجتمعات الضعيفة هنا إلى نقطة حرجة. فالخدمات العامة منهكة والنمو الاقتصادي متعثّر، مئات الآلاف من الأطفال غير قادرين على الالتحاق بالمدارس، والبطالة آخذة في الارتفاع وسجّلت معدلات قياسية مما يترك الكثير من الشبان من دون خيارات. في ظل تزايد التوترات الاجتماعية، لبنان قلق إلى أقصى الحدود بشأن حماية نفسه من التطرف والعنف.
أظهر لبنان قوة استثنائية خلال هذه الأزمة. وتعتبر هذه القوة بمثابة شهادة على كرم شعبه وتاريخه الحافل بالتنوع والعيش المشترك، إلا أن اللبنانيين الأكثر ضعفاً يدفعون الآن ثمناً لا يمكنهم تحمله بعد الآن لنزاع دائر في بلد آخر. فتجب تلبية الاحتياجات الخاصة بهم. وقد طُلب من أسر النازحين بدورها إظهار شجاعة وقدرة استثنائية على التحمل والصمود. أربعة من كل خمسة نازحين هم من النساء والأطفال وهم بمعظمهم من دون مصادر دخل أو وصول إلى التعليم. كما استند الكثير منهم جميع مدخراته ويعيش في ظروف مأساوية. جلّ ما يريدونه هو البقاء على قيد الحياة بكرامة وصحة جيدة وارتياد المدارس حتى يصبحوا قادرين على العودة إلى منازلهم بأمان. تناهى إليّ أن العائلات لا تتوانى عن التعبير عن مدى شوقها لهذا اليوم.
ولا يمكن الفصل تماماً بين احتياجات ومواطن الضعف لدى الأسر اللبنانية من جهة واللاجئين السوريين من جهة أخرى، في وقت لا تلوح نهاية الأزمة في الأفق. تكمن المعضلة بالنسبة إلى لبنان في كيفية تلبية احتياجات الجانبين بإنصاف وفعالية في سياق عالمي يزداد فيه الطلب على المساعدة الدولية.
÷ أولاً، نحتاج إلى الاستثمار بشكل أكبر من أجل تلبية احتياجات لبنان للتأكد من قدرته على اجتياز هذه المرحلة واستعادة ازدهاره على المدى المتوسط. لبنان بلد قوي ولكن التهديدات على استقراره حقيقية. نحن في حاجة إلى زيادة الدعم للجهد الحيوي لإرساء الاستقرار على المستوى الاقتصادي والمؤسسي في لبنان. يواجه الكثير من اللبنانيين الأزمة بعد عقود من الفقر. فهم يحتاجون إلى رؤية أدلة ملموسة للاستثمارات في مجتمعاتهم لإعادة بناء ثقتهم في الرفاهية الاجتماعية والخدمات الصحية والتربوية. ويعتبر تأمين الوظائف أولوية أساسية بالنسبة للشبان العاطلين عن العمل أو العالقين في وظائف منخفضة الأجر من دون مهارات أو آفاق. يحتاج هؤلاء إلى تعليم وتدريب أفضل لمنحهم الأمل وإبعادهم عن شبح الفقر وخطر التطرف.
÷ ثانياً، علينا المساعدة على تخفيف الضغط الناجم عن عبء اللاجئين. وهناك حاجة إلى إعادة توطين سريعة في بلد ثالث للاجئين السوريين وعلى الدول أن تبرهن عن كرم أكبر في هذا المجال. وتعتبر الالتزامات التي أُعلن عنها خلال مؤتمر جنيف الذي عُقد مؤخراً بمثابة خطوات واعدة في هذا المجال.
÷ ثالثاً، نحتاج إلى حلول أكثر فعالية من حيث التكلفة من أجل توفير المساعدة الإنسانية. استمرّت الأزمة أكثر مما كنا نتوقع جميعأً وما من بلد قادر على تحمّل مشروع إنساني ضخم إلى ما لا نهاية، إلا أن الحاجات الإنسانية تتعمّق. تزداد ديون معظم اللاجئين ويعيش نصفهم في مساكن غير لائقة. كما أن ثلثي الأطفال اللاجئين غير مسجلين في المدراس على الرغم من الجهود الجديرة لوزارة التربية والتعليم العالي في تسجيل 90,000 طفل العام الماضي. ومن خلال ضمان من أن البرامج الإنسانية والتنموية تعزز وتدعم بعضها البعض، تحصل الجهات المانحة على قيمة أفضل ويمكن للبنان أن يحصد منافع مهمة على المدى البعيد.
خطة لبنان للاستجابة للأزمة للعامين 2015 و2016 الجديدة تخدم هذه الأهداف الجماعية ولا سيما بالنسبة للمجتمعات الأكثر حاجةً. وتحوي الخطة برنامج الإغاثة والحماية للأسر الأكثر فقراً في لبنان واللاجئين من سوريا الذي يُستكمل باستثمارات مقترحة في أنظمة الخدمات الاجتماعية والرفاهية، وخلق فرص عمل وتسوية الخلافات في المجتمعات الأفقر حالاً. ومن خلال خطة لبنان للاستجابة للأزمة، سيتعزز التمويل الدولي ويدعم المؤسسات العامة والمنظمات المدنية والشركات الخاصة في لبنان. وستقدم البرامج أدوات ومواد للمؤسسات العامة كما ستوظّف وتدرّب عاملين لبنانيين وستخلق أسواقاً للسلع والخدمات اللبنانية.
ولا يجب أن يكون هناك أدنى شك في أن العنف في سوريا يجب أن يتوقف قبل أن نتمكن من إيجاد أجوبة طويلة الأمد على المعضلات التي يفرضها النزاع. إلى حين تمكن العائلات السورية من العودة إلى وطنها بكرامة وسلامة، تحتاج هذه العائلات والدول المضيفة لهم إلى دعم دولي مهم. كل دولار تم الحصول عليه من المجتمع الدولي حتى الآن كان قيّماً للغاية وموضع تقدير. ولكن وفيما نحن على أبواب السنة الخامسة من النزاع، الاحتياجات تفوق التمويل بشكل كبير. ومهما كان التنافس كبيراً على الموارد الدولية، من غير المسموح به تعثر الاستقرار في لبنان.
قام لبنان بأكثر مما يتوجب عليه حتى الآن لتأمين إعانة قصيرة المدى لضحايا النزاع في سوريا. يقدّم العام المقبل فرصة مهمة لتعزيز وحماية هذه الجهود فيما تتواصل المساعي الرامية إلى تحقيق السلام. علينا أن نستغل هذه الفرصة لمصلحة استقرار لبنان والمنطقة ولمصلحة جميع الذين يعيشون هنا على أمل التوصل إلى حلول.
(]) منسّق أنشطة الأمم المتحدة والشؤون الإنسانية في لبنان