كاتب وسياسي
الصورة السلبية البشعة هي الطاغية على المشهد العربي هذه الأيام من خلال الحروب والقتل والذبح والدمار والخراب والاقتتال المذهبي وحتى إشعار آخر. لم يسبق لمنطقتنا العربية ان شهدت هذين الكمّ والنوع من العنف والتطرف والارهاب والجرائم ضد الانسانية وكل ما لا يمت إلى التنوع والحضارة والثقافة بصلة. ومن المؤسف ان هذه المرحلة طالت وستطول أكثر واكثر طالما لم تتوافر ظروف الانتقال من الحرب ومحاولات الحسم العسكري المتعذر إلى الحوار وعملية الحل السياسي المؤجل.
لكن وبالرغم من هذا المشهد الاسود والحزين هناك مشاهد اخرى ملفتة تدعو الى الامل خارج بعض هذا الظلام العربي يجب التوقف عندها والتحدث عنها لعلها تعطي دولاً وشعوباً عربية اخرى الحافز للعمل والتطور والتركيز على الايجابية والابداع .
ولنا في هذا المجال مثال في دولتين عربيتين على الأقل تنافسان العالم بالتطور والحضارة وتجلبان الاستثمارات المالية والمشاريع العمرانية وتدخلان العصرية الى بلديهما كما تقيمان المعارض العالمية والمؤتمرات الدولية والالعاب الاولمبية في مظهر حضاري وراق، في وقت يعيش معظم هذا الشرق العربي الحروب والاقتتال والدماء والدموع.
النموذج الاول دبي المدينة النموذجية العصرية والمتطورة والتي تعد اليوم مركزاً اقليمياً متقدماً في الحركة المالية والتجارية والاستثمارية في العالم، وهي تجمع أهم رجال المال والاعمال والنخب الاقتصادية وكبرى الشركات من كل اصقاع الارض، وقد أصبحت وعن استحقاق وجدارة « عاصمة العرب « ومركز التفاعل الاقليمي وجسر عبور وتواصل بين الشرق والغرب…
وهي تتحضر اليوم لاستضافة DUBAI EXPO 2020 وستكون هذه هي المرّة الأولى التي ينظم فيها هذا المعرض العالمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وجنوب آسيا، ويتوقع ان يجذب هذا المعرض حوالى 25 مليون شخص خلال فترة انعقاده، 75 بالمئة منهم من خارج دولة الامارات ومحيطها، كما سيوفر هذا المعرض العالمي في الست سنوات القادمة اكثر من 275.000 فرصة عمل في المنطقة لخدمة هذا المعرض, كما سيصل العائد الاقتصادي والمالي لدبي بين الفترة الحالية وعام 2021 إلى حوالى 17.7 مليار يورو.
النموذج الثاني الآخذ في البروز أكثر فأكثر هو الدوحة التي تسجل خطوات سريعة ومتقدمة على صعيد اثبات حضورها وشخصيتها ودورها الريادي في كل المجالات والانشطة الفكرية والحوارية والاقتصادية والرياضية.
قطر ستسضيف عام 2022 «مونديال كرة القدم» في سابقة لم يعرفها أي بلد عربي وأسيوي، كما ستستضيف 31 دولة تتنافس في 64 مباراة في ملعب لوسيل المتميز والذي تم تصميمه خصيصاً لاستضافة كأس العالم.
كما تشهد الدوحة ايضاً ورشة نهوض عارمة وتمضي قدماً في استقطاب النخب العالمية والاقليمية في محاولة لتصبح مركزاً عربياً واقليمياً رئيسياً وربما وحيداً لحوار السياسات والثقافات والاديان والحضارات. وهذا ما تجسّد على أرض الواقع من خلال حركة مؤتمرات ومنتديات محكمة الأداء والتنظيم وهي تزيد عن 85 مؤتمراً تدعو اليها دولة قطر كل سنة وينظمها «منتدى الدوحة العالمي» وكان آخرها قبل ايام مؤتمر تحت عنوان «إثراء المستقبل الاقتصادي للشرق الأوسط» والذي جمع أكبر شخصيات العالم السياسية والثقافية والاعلامية في تظاهرة قل نظيرها والذي عقد برعاية امير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني هذا الشاب الذي يطمح الى رفع مستوى بلاده الى مستويات عالمية من حيث العلم والثقافة والرياضة وقبول الآخر وكل ما يصب في مصلحة وخدمة جيل الشباب.
لقد جمع المؤتمر الاخير على طاولته حشداً كبيراً من الشخصيات العالمية السياسية والمالية والمصرفية والاقتصادية ومئات من الخبراء والباحثين والاكاديميين والاعلاميين وشهد على امتداد ثلاثة أيام مناقشات وابحاثاً لم توفر أياً من قضايا وأزمات المنطقة. وتوغّلت في آفاق المستقبل السياسي والاقتصادي للشرق الأوسط وفي العلاقات الدولية وكل مسائل الارهاب والتطرف وحقوق الانسان وحوار الحضارات والتحولات الديمقراطية.
لقد أثبتت الدوحة من خلال هذه المنتديات القدرة على الاستثمار الفكري والحراك «الحواري» عبر احتضان ورعاية الخبرات والطاقات وتوظيفها في خدمة الدور القطري الفاعل وايضاً في خدمة قضايا العرب دولاً وشعوباً.
ونحن نتأمل في هذين النموذجين، فاننا نسرّ ببلدان عربية تسلك طريق المبادرات والمشاريع والافكار الخلاّقة، وان تقوم بسياسات وأدوار استقطابية وجاذبة وبناءة…
ولكن من ناحية أخرى يحزننا ويؤسفنا ما آلت اليه الحال في وطننا الذي يراوح مكانه منذ سنوات، بحيث تراجع دوره وحضوره العربي والدولي إلى حدّ التلاشي والتخلّف. وبينما نجد بعض البلدان العربية في سباق مع الوقت، نجد لبنان يقتل الوقت وتسبقه التطورات.
والسؤال المطروح هنا ماذا يفعل لبنان، حكومة ومسؤولين وسياسيين ومجتمعاً مدنياَ لتأدية دوره ورسالته وليكون فاعلاً ومؤثراً في محيطه ومع العالم ؟ وهل يكفي ان نظل نتغنى بدور لم يعد موجوداً ونتباهى بامجاد ماضية تجاوزتها الاحداث وطحنتها المتغيرات ؟
ما نأسف له حقاً ان يظل بعض المسؤولين والسياسيين وأصحاب الشأن والقرار غارقين في احقادهم وخلافاتهم ومماحكاتهم السخيفة، وربط مصير هذا الوطن بمحطيه, وادخاله في صراعات اقليمية لا قدرة له على تحملها، وان يمعنوا في تقييد اللبنانيين وفي تضييق مساحة طموحاتهم ومشاريعهم، وسط منطقة سريعة الايقاع ومشرّعة الأبواب والآفاق.
ان المشكلة في الاساس هي في النظام السياسي اللبناني، وفي بعض هذه الطبقة السياسية وفي الذهنية والممارسة لدى بعض المسؤولين والسياسيين في لبنان على حد سواء… المشكلة ليست في الشعب اللبناني الزاخر بالطاقات والكفاءات والأدمغة والمتألق في دول الاغتراب حيث تتوافر له الظروف والمناخات المساعدة والبيئات الحاضنة لمواهبه وافكاره ومشاريعه.
لبنان الذي كان السباق دائماً في طرح افكار ومشاريع خلاقة ومتقدمة وحضارية، نرى سياسييه اليوم سباقين في كيفية تدميره والعودة به الى ايام الجاهلية، عوضاً عن تبني افكار ومشاريع طرحها ويطرحها لبنانيون مميزون لرفع شأن وطنهم وحمايته، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ما طرحه السفير الراحل فواد الترك .
فقد جهد عميد الدبلوماسية اللبنانية في تسويق فكرته الهادفة إلى جعل لبنان مركزاً دولياً لحوار الأديان والحضارات، على ان يكون هذا الموقع مكرّساً ومعتمداً من قبل الأمم المتحدة، وان هذا الدور في حال قيامه سيكون ضمانة للبنان وخطوة عملية أولى تضعه على سكة الحياد برعاية دولية .
رحل فؤاد الترك من دون ان يحقق حلمه، لا بل رحل متحسراً على دولة غير مكترثة بمصالح شعبها، وقلقاً من وضع سائر على طريق الانحدار.
اليوم وفي ظل ما يحدث في المنطقة فَقَدَ لبنان دوره ، وهو في أمسّ الحاجة والضرورة إلى إعادة صياغة هذا الدور وإعادة ارسائه على أسس واضحة وصلبة. وهذا يتطلب تحقيق أمرين متلازمين:
– إعادة بناء دولة عصرية وقيام بنى تحتية مؤسساتية وسياسية وادارية واجتماعية جديدة ومتطورة بعدما اصابها الوهن والصدأ ونخرها الفساد. واطلاق آليات عمل جديدة وورش اصلاح وخطط نهوض كي تصبح قادرة على تولي هذه المهام والمسؤوليات.
– أما الأمر الثاني فانه يتعلق بالمساواة الحقيقية بين الطوائف والمذاهب اللبنانية، وفي تصحيح الخلل في التمثيل النيابي من خلال قانون انتخابي عصري وجديد وكذلك اعادة التوازن الى الادارات الرسمية والمؤسسات العامة، وكذلك في اعادة بعض الصلاحيات لرئاسة الجمهورية. وهذه مسؤولية لبنانية مشتركة اذا اردنا شراكة حقيقية وفعلية ومساواة بين اللبنانين .
لكن وفي الختام واقولها بكل اسف اخشى ما اخشاه ان لا يكون لبنان قد فقد دوره وحسب وانما ان يكون في طريقه لتغيير «وجهه» وملامحه وفي بنيته وشخصيته.