عندما أقر مجلس النواب اللبناني تمديد ولايته في المرة الأولى من يونيو (حزيران) من عام 2013، إلى الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2014، وردت في ديباجة التبرير عبارة «لمرة واحدة»، لكن التمديد الثاني الذي أقره المجلس إياه طبعاً من الخامس من نوفمبر 2014 إلى 20 يونيو من هذه السنة 2017، اندرج تحت المسوّغات عينها، ثم جاء التمديد الثالث إلى مايو (أيار) من السنة المقبلة 2018، ولكن سرعان ما بدأت تبرز مؤشرات تهدد الموعد الجديد، عبر الحجج المضحكة المبكية التي قد تمهّد لتمديد رابع.
مسخرة؟ ربما قمة المساخر التي لم يسبق أن عرفتها عملية التمثيل العام، حتى في الديكتاتوريات التي تُعدّ المسرحيات الانتخابات الصورية للبقاء في السلطة، فلقد شاهدنا هذا في «الانتخابات» السورية التي جرت على دوي المدافع وعبر توابيت القتلى بدلاً من صناديق الاقتراع، وهو تقريباً ما يجري دورياً في طهران، رغم أن ممثلي الشعب يخرجون من عباءة النظام ويذهب المعترضون إلى السجون أو الإقامة الجبرية.
هكذا يضيع صراخ الشعب اللبناني الذي يطالب بالانتخابات، في حامولة الخلافات بين الأحزاب والقوى السياسية التي تغرق في اشتباك أبدي، حول وضع قانون جديد ينهي اعتماد «قانون 1960» الذي يعتمد النظام الأكثري، وهو على قياس الأحزاب والكتل التي تستأثر بالسلطة التشريعية!
مع كل تمديد كان يقال إن على السلطة التشريعية أن تبدأ فوراً وفي اليوم الثاني العمل على وضع قانون جديد عصري ونزيه وعادل، ولكن كانت مدة التمديد تنتهي ونعود إلى نقطة الصفر، ومكانك راوِحْ، وهكذا بقيت عملية التمثيل العام في لبنان مبتسرة ومفروضة فرضاً، عبر التمديد للنواب ولا تعبّر عن رغبة الناس، وبينهم أجيال جديدة من الشباب بلغوا سن الاقتراع، ولم يتمكنوا بعد من ممارسة حقهم الطبيعي والضروري في اختيار من يمثّلهم في السلطة التشريعية.
على امتداد عمليات التمديد الثلاث السابقة، كان الحديث دائماً عن وجود مشروعات قوانين تتمم دراستها، وعن لجان حزبية ومجموعات من الخبراء، وما إلى ذلك من التعميات، تعكف على درس اقتراحات جديدة تتلاءم مع عدالة التمثيل ونزاهة الاختيار، ودار الصراخ دائماً حول ضرورة الذهاب إلى اعتماد النسبية في القانون الجديد؛ لأنها أكثر عدالة، ومن شأنها إنهاء السيطرة المطلقة للكتل الكبيرة على التمثيل العام عبر القانون الأكثري.
ومنذ التمديد الأول في يونيو 2013، يغرق لبنان في جدال بيزنطي حول مشروعات القوانين التي تجاوز عددها عشرين قانوناً، وضعت على طاولة الرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب، ولكن لم يتم التفاهم طيلة هذا الوقت على أي منها لسبب واضح، وهو أن كل الأحزاب والقوى السياسية تريد تفصيل القانون وفق دفتر شروطها، بمعنى أن كل فريق يريد أن يرى سلفاً ممثليه جالسين في مقاعدهم في البرلمان، وفي وسع الماكينات الانتخابية طبعاً احتساب هذه العملية بدقة.
كانت المبررات دائماً موجودة، اليوم تمديد تمليه «الظروف الأمنية»، وغداً تمديد تفرضه «الظروف التقنية»، وبعده تمديد سببه عدم «انقضاء المهل» وعدم الاتفاق على قانون جديد، ورفض القانون القديم، أي «قانون الستين»، وبعد جدال طويل ونقاشات أطول، تم الاتفاق قبل شهور على صيغة قانون جديد يعتمد النسبية، ويقسم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية، مع إعطاء المقترعين فرصة اختيار الصوت التفضيلي، بمعنى تفضيل مرشح واحد من مرشحي اللائحة.
كان كل شيء يوحي بأن «التمديد التقني» إلى شهر مايو من السنة المقبلة سيكون الأخير، لكن فجأة بدأت تقفز الأرانب والمفاجآت من بنود وشروط القانون الجديد، الذي أقرّه مجلس النواب بعدما أشبعه درساً وتمحيصاً، وبدأت الشكوك والمخاوف من أن تؤدي الخلافات بين الأفرقاء على بنود القانون الجديد إلى تمديد رابع، لا يستطيع أحد أن يتحمّل أوزاره أمام الرأي العام، وهكذا يغرق لبنان الآن في حيص بيص كما يقال، هل يتم التفاهم على النقاط المختلف عليها؟ هل تؤجل الانتخابات؟ أم يجري تقديم موعدها عبر تجاوز النقاط الخلافية؟
المضحك المبكي أن اللجنة الوزارية المكلّفة بحث كيفية تطبيق القانون الجديد، عقدت ثلاثة اجتماعات حتى الآن دون أن تتفق على أمور كان يفترض التنبه إليها ومعالجتها قبل إقرار القانون، وفي الجلسة الأخيرة تركز البحث على الصعوبات التي تواجه وزارة الداخلية في المدة المتبقية لتنفيذ الإجراءات الإدارية والفنية والتقنية، قبل الموعد المحدد في مايو المقبل، وخصوصاً في ظل الحديث عن إمكان تعديل عشرين مادة من مواده، كل منها يحتاج إلى عشرين شهراً من الجدال!
في كثير من السخرية والمرارة، يتسلّى اللبنانيون بالحديث عن خلافات المسؤولين حول «البطاقات الممغنطة» التي يفترض أن تُعتمد في عمليات الاقتراع مرة واحدة منعاً للتزوير، أو إذا كان الأفضل اعتماد «البطاقات البيومترية»، التي يفترض أن تحمل معلومات كاملة عن حاملها، وتستعمل لاحقاً بدلاً من الهوية وفي كل عمليات الاقتراع.
في الضواحي والأرياف يضيع اللبنانيون في الحديث عن الصوت التفضيلي، وكيف يُحتسب على أساس الدائرة أو القضاء، وهذه نقطة خلافية أيضاً، ثم جاءتهم قصص الممغنطة والبيومترية، التي باتت تشكّل هذه الأيام موضوعاً للتندر، في بلد لم يعد يرى في السياسة سوى الفشل والفساد.
لكن الخلافات لا تتوقف هنا، بل تصل إلى نقطة جديدة طارئة وهي عملية «التسجيل المُسبق»، التي تفرض على المقترع الذي يريد أن يدلي بصوته في مكان إقامته دون الذهاب إلى قريته، أن يبادر قبل نهاية السنة إلى إبلاغ وزارة الداخلية بالمكان الذي يريد التصويت فيه، وهذا سيفرض على الوزارة مهمات إضافية، فوق اضطرارها إلى طبع 50 ألف بطاقة ممغنطة كل شهر، والمطلوب طبع 3,800,000 بطاقة، كي تستطيع إجراء الانتخابات في مايو المقبل، وهو أمر لم يبدأ بعد، في انتظار الاتفاق بين الأفرقاء.
عملية التسجيل المسبق يعارضها «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل»، ويتمسك بها «حزب الله» و«حركة أمل» و«القوات اللبنانية»، وفي سياق الخلاف على هذه النقطة يقول الرئيس بري: «هناك من يريد وضع عراقيل بهدف تطيير الانتخابات، وأنا لن أقبل بإلغاء التسجيل المسبق حتى لو طارت الانتخابات».
إنها مسخرة الديمقراطية البرلمانية في نسختها اللبنانية الغريبة، ذلك أن مجلس النواب الذي انتخب في عام 1972 ظل يمدد لنفسه عشرين عاماً حتى انتخابات 1992 بعد التوصل إلى اتفاق الطائف، ودائماً بحجة الاستحالة، وعلى أساس النظرية التي تقول: «المجلس سيد نفسه»، بمعنى أنه يستطيع أن يقرر أي شيء، التمديد لنفسه أو زيادة رواتب أعضائه ومخصصاتهم… والبلد في فاقة يا سيدي علاقة!