يصعب تجاهل عدد من التطورات والمواقف السياسية في لبنان، وعلى رأسها زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لواشنطن وكلام رئيس الجمهورية حول الاستراتيجية الدفاعية وحول التزام لبنان بالشروط والإصلاحات المطلوبة للحصول على المساعدات الموعودة في مؤتمر «سيدر».
فخلال حوار مع الإعلاميين، قال الرئيس عون تعليقاً على مسألة الاستراتيجية الدفاعية: «لقد تغيرت حالياً كل مقاييس الاستراتيجية الدفاعية التي يجب أن نضعها. فعلى ماذا سنرتكز اليوم؟ حتى مناطق النفوذ تتغير. وأنا أول من وضع مشروعاً للاستراتيجية الدفاعية. ولكن هل لا يزال صالحاً اليوم؟». وعن «سيدر» والإصلاحات قال: «لدينا برنامج متدرّج للإصلاح، وما طُلب منا في مؤتمر سيدر سنطّبقه تباعاً، وبعض ما هو مطلوب قد لا نستطيع تطبيقه بسبب أوضاعنا المالية التي لا تسمح».
أثار كلام الرئيس عون بلبلة، إذ عده البعض تراجعاً عن تعهدات قطعها لجهة إطلاق حوارٍ وطني لبحث الاستراتيجية الدفاعية، فيما فسرّه البعض الآخر بأنه يصب في خانة خطاب «حزب الله» الذي يعد نفسه والمحور الإقليمي الإيراني الذي ينتمي إليه قد انتصرا في «الجوار» كما في الداخل على «الإرهاب الجهادي»، بما يشرع سلاحه كما ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة». فصدر توضيح عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية اعتبر أن كلام الرئيس حول الاستراتيجية الدفاعية «كان توصيفاً للواقع الذي استجدّ بعد عشر سنوات على طرح هذا الموضوع… لا سيما التطورات العسكرية التي شهدها الجوار اللبناني خلال الأعوام الماضية والتي تفرض مقاربة جديدة لموضوع الاستراتيجية الدفاعية تأخذها في الاعتبار».
جاء هذا التوضيح ليؤكد دون لبس صحة ما فُهم من كلام الرئيس وأحقية المخاوف التي أثارها لجهة انزلاق لبنان باتجاه محور الممانعة ورفضه للإجراءات الأميركية تجاه إيران و«حزب الله». واللافت أنه تزامن مع عودة رئيس الحكومة من زيارته إلى واشنطن ربما لتفريغها من أي محتوى ونتائج، هذا إذا كانت حملت معها فعلياً أكثر من بعض المهدئات.
رافق هذه الزيارة الكثير من التفاسير والتحاليل حمّلت نتائجها أكثر مما يمكنها تقديمه. فلبنان أولاً شبه غير موجود على خريطة السياسة الأميركية في المنطقة، اللهم إلا من منظور النفوذ الإيراني فيه مع إدراك الإدارة الأميركية حجم هيمنة «حزب الله» على مفاصل الدولة. ومع اعتماد واشنطن سياسة اللاسياسة تجاه المنطقة واختصارها هذه الأخيرة بإيران وخطرها النووي، بات الهم الأميركي الرئيس بالنسبة إلى لبنان هو عدم تحوله إلى منفذ بحري وجوي وبري يسمح لإيران بالالتفاف على العقوبات.
ثانياً، لا الرئيس الحريري ولا غيره قادرون على تغيير ما تنوي واشنطن القيام به تجاه لبنان لأنه موجّه أساساً نحو إيران وأذرعتها بغض النظر عن تأثيراته على البلاد، ولأن مسألة فرض العقوبات وهوية الكيانات والأشخاص الذين يمكن أن تطالهم تراعي متطلبات الأمن القومي الأميركي فقط.
ثالثاً، تشير الأنباء الواردة من واشنطن إلى أن الرئيس الحريري لم يسمع أي جديد حول مواقف واشنطن من لبنان والتي سبق أن أعرب عنها العديد من المسؤولين الأميركيين، آخرهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال زيارته لبيروت التي اختصرها بالقول إن «لبنان دولة مهدَّدة من إيران ومن (حزب الله)». المرجح أن الرئيس الحريري المقتنع بأولوية الشأن الاقتصادي سيشدد خلال لقاءاته مع المسؤولين الأميركيين على الاقتصاد والدعم الأميركي لمخرجات مؤتمر «سيدر» لإنقاذ البلاد من الانهيار، والمخاوف مما قد تؤدي إليه العقوبات على «حزب الله» وحلفائه في مرحلة مقبلة من تعثر عمل الحكومة بما يمنعها من تحقيق ما التزمت به في مؤتمر «سيدر» وخسارة طوق النجاة الأخير للبنان.
في المقابل، استمع الحريري مطولاً إلى القلق الأميركي من تصاعد تهديدات «حزب الله» بتحويل مدن إسرائيل إلى مدن أشباح، بما يشي بأن الحكومة اللبنانية لم تنفّذ المطلوب منها وفقاً للقرار 1701 لجهة حصر السلاح في منطقة جنوب الليطاني بالقوات الشرعية وحدها. فهناك فائض من المعلومات حول الوجود العسكري الكثيف لـ«حزب الله» في هذه المنطقة، حتى باتت جدوى وجود القوة الدولية في الجنوب مدار بحث جدي في أروقة المجتمع الدولي بعامة ولدى إسرائيل وأميركا بخاصة. فإسرائيل مثلاً، علقت على نقاط ثلاث وردت في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الصادر في شهر يوليو (تموز) الماضي، معتبرة أنها إدانة لقوة الـ«يونيفيل» ودليل على فشلها في أداء مهمتها.
النقطة الأولى هي إقراره صحة ما كشفته إسرائيل من وجود أنفاق لـ«حزب الله» عابرة للحدود عندما قال إن «اليونيفيل تحققت من وجود خمسة أنفاق، ثلاثة منها عبرت الخط الأزرق». فاعتبرت إسرائيل أن فشل اليونيفيل «عن عمد» في الكشف عن مشروع يتطلب تنفيذه سنوات عدة ويشكل انتهاكاً صارخاً لقرار مجلس الأمن 1701 أكبر دليل على فشلها.
والنقطة الثانية هي دعوة التقرير مرة أخرى الحكومة اللبنانية إلى «نزع سلاح الجماعات المسلحة» وإلى حوار حول «استراتيجية الدفاع الوطني»، وإلى نشر «الفوج النموذجي» الذي طال انتظاره، في إشارة -وفقاً لإسرائيل- إلى أن الحكومة اللبنانية حتى الآن لم تنفذ أياً من هذه الأمور.
والنقطة الثالثة هي ما ورد في التقرير من أن «اليونيفيل تواصل مساعدة القوات المسلحة اللبنانية على إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من المسلحين والأسلحة ما عدا القوات التابعة للحكومة اللبنانية وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان». تقول إسرائيل إن الأمم المتحدة تدرك جيداً أن القوات المسلحة اللبنانية لم تفعل شيئاً لاحتكار حمل السلاح واستخدامه على طول الحدود مع إسرائيل. وتدعم موقفها بالقول إن اليونيفيل تتغاضى منذ أكثر من عقد عن محاولات الحكومة اللبنانية منعها من الوصول إلى مواقع عسكرية لـ«حزب الله» بحجة أن هذه المواقع هي ممتلكات خاصة.
لم يعد صعباً الاستنتاج أن ثمة مناخاً سلبياً، أقله إسرائيلياً وأميركياً، تجاه دور قوات اليونيفل والتفكير بتحجيمها باعتبار أن وجودها غير مجدٍ، كما بإعادة النظر في المساعدات التي تقدمها واشنطن للقوات المسلحة اللبنانية.
في الوقت الذي يشير فيه المسؤولون اللبنانيون في كل مناسبة إلى خطورة ما يواجه لبنان اقتصادياً وسياسياً، من الصعب وسط ما يجري فهم ما يهدفون إليه تصريحاً وممارسةً لا سيما بعد إصدار وكالات التصنيف الائتماني تصنيفها للبنان. فقد قررت وكالة «ستاندرد آند بورز» إبقاء تصنيف لبنان عند مستوى (B -)، أما وكالة «موديز» فصنفت لبنان بمستوى (C)، فيما خفضت وكالة «فيتش» التصنيف إلى (CCC).
يبقى تفسير وحيد لمواقف وتصرفات الحكم والحكومة في لبنان ومنها تجاه الاستراتيجية الدفاعية أو الإصلاحات السياسية والاقتصادية أو المواقف من زيارة الرئيس الحريري لواشنطن، أنها كلها تصب في مسار الانزلاق نحو سياسة المحور الواحد المعبَّر عنها في كل مناسبة بجملة مفيدة هي «الأمر لي».