أحدث دعم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الشيخ سعد الحريري لمرشح حزب الله العماد ميشال عون لمنصب رئاسة الجمهورية اللبنانية صدمة كبيرة جداً على المستويين الإقليمي والدولي. فتغيّر المواقف والتحالفات في لبنان والذي أفضى إلى فوز العماد عون بالانتخابات ليصبح الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية ومن ثم تكليف الحريري بتشكيل الحكومة، ما هو إلا مؤشر على المتغيّرات والاتجاهات التي تشهدها المنطقة نتيجة تراجع الموقف الأميركي، والهجمة الروسية لتعزيز نفوذها عبر قيادة محور يضم إيران ولاعبين آخرين.
إن موقف الرئيس الحريري، إن كان يدل على شيء فهو إدراك الواقعية السياسية ولو بشكلها المؤلم وممارستها بالرغم من مصاعبها ومخاطرها. فتراجع الدور الأميركي ضمن سياسة خارجية ضعيفة وفاشلة قد أضرّ بحلفاء الغرب الإقليميين بشكل كبير، وتظهر نتيجة ذلك عبر اتساع رقعة النفوذ الروسي – الإيراني في العالم العربي الذي تنتشر فيه الحروب من المضيق إلى الخليج، وباتت على مشارف الحدود اللبنانية من الشمال والشرق.
ولم يكن الرئيس الحريري أوّل مَن أقدَمَ على هذه النقلة، إنما شهدنا قبل فترة وجيزة كيف أقدَمَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على وقف العداء مع موسكو وتطبيع العلاقات معها، واليوم يسعى للتنسيق معها بالحرب ضد داعش في سوريا والعراق بالرغم من كون تركيا دولة أساسية في حلف شمال الأطلسي، والذي يشعر اليوم بقلق شديد من إنشاء روسيا لقواعد جوية وبحرية على حدوده الجنوبية – الشرقية وتحديداً في اللاذقية وطرطوس. فلقد أجبر ضياع البوصلة لدى واشنطن إلى تشتت حلفائها الإقليميين الذين باتوا اليوم مضطرين لأخذ قرارات صعبة لحماية مصالحهم ولاستمرار وجودهم.
كما أن هناك علامات استفهام كبيرة في ما يخص موقف مصر، فهل انتقلت اليوم إلى المعسكر الروسي أم أنها تحاول أن تطبّق سياسة شبيهة بالتركية حيث أنها تركز على مصالحها وبقاء النظام فقط من دون الأخذ بعين الاعتبار مواقف وسياسات واشنطن وموسكو في المنطقة؟
لا يزال المشهد في واشنطن ضبابياً نتيجة الحملات الانتخابية الشرسة والتي لم يُظهر فيها المرشحان أي رؤية واضحة لسياستهما الخارجية في الشرق الأوسط . فكلاهما يتحدث عن الإخفاق والحاجة للتغيير إنما من دون إعطاء صورة واضحة. ولن تتضح الصورة قبل الربيع المقبل. إنما الجليّ بالأمر هو أن الناخب الأميركي بغالبيته يحبذ الانعزالية والابتعاد عن مشاكل الشرق الأوسط، مما سيحدّ مِن حجم أي تدخل عسكري أميركي مستقبلي في المنطقة، ما لم تهدد المصالح الأميركية والأمن الإسرائيلي بشكل مباشر.
أما أوروبا، فهي تعيش حالة من الخوف والانقسام نتيجة السياسة التوسعية الروسية الظاهرة في أوكرانيا ودول البلطيق، وتصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، واستمرار الأزمة الاقتصادية الدولية. ولقد زادت سياسات الإدارة الأميركية الفاشلة من مخاوف الأوروبيين على أمنهم مما يدفع بهم اليوم إلى ابتكار خيارات جديدة لا تتكل بشكل كبير على الدور الأميركي، ومنها معاودة الحديث عن إنشاء جيش أوروبي موحّد كرديف أو مساند لحلف الناتو الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.
وتخشى دول الخليج العربي من عواقب استمرار بعض السياسات الأميركية التي تعتبرها معادية لها مثل إقرار الكونغرس لقانون العدالة ضد الإرهاب، والذي يتيح لعائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية ضد نيويورك وواشنطن بمقاضاة الدول التي أتى منفذو الهجمات منها، مما أعتبر تهديداً للمملكة العربية السعودية. وتخشى بعض الجهات الخليجية من أن يكون هذا القانون جزءاً من سياسة أميركية لاستنزاف دول الخليج العربي وإضعافها. وتعتبر هذه الجهات أن توقيع واشنطن الاتفاق النووي مع إيران يأتي في سياق خطوات أميركية لإعادة التوازن في المنطقة ورسم خارطة جديدة تحل مكان تلك التي وضعتها اتفاقية سايكس - بيكو.
ويُشكّل احتدام المعارك في سوريا والعراق في وقت متزامن ودخول لاعبين إقليميين مثل تركيا ساحة القتال مؤشراً على سعي اللاعبين الإقليميين والدوليين لفرض وقائع جغرافية وديموغرافية جديدة تصبّ في مصالحهم عندما تنضج مرحلة تقسيم دول المنطقة. ولقد كشفت مصادر تركية وإسرائيلية عن تنسيق وثيق بين أنقرة وتل أبيب لمنع إيران من إنشاء ممرّ بري يربط حدودها الغربية مع البحر المتوسط عبر الموصل وتل رفعت ودير الزور. فتركيا ستقوم بإعاقة إنشاء هذا المعبر من داخل العراق عبر السيطرة على تل رفعت في حين ستقوم إسرائيل بإيقافه داخل الاراضي السورية إذا ما اقتضت الحاجة.
وفي خضم هذه الفوضى وتضارب الأهداف والأجندات بين الحلفاء قبل الأعداء تغرق منطقة الشرق الأوسط اليوم في جو من الضبابية واللااستقرار مما يستوجب على السياسيين والقادة أن يخطوا في عالم الواقعية السياسة مع أعلى درجات الحذر. ولقد كان لبنان دوماً المرآة التي تعكس التطورات والاتجاهات في الشرق الأوسط. وعليه فمن المتوقع أن تشهد المنطقة المزيد من المتغيّرات، خاصة في التحالفات والحدود مما يستوجب على اللاعبين الصغار أن يخففوا من تبعيتهم للاعبين الكبار. فالمعركة اليوم هي صراع بقاء، ومصير لبنان، كدول أخرى، على المحك.