في الظاهر، تجاهل الوسط السياسي اللبناني «حرب حلب»، ولم يبد اهتماماً يذكر بآثارها وأخطارها الممكنة على لبنان.
منذ انفجار الحرب المصيرية الجديدة في الشمال السوري، اللغة السياسية اللبنانية ما زالت هي هي، ومفرداتها هي هي، ومحاورها هي هي، واهتمامات قادة الرأي لا تتغيّر، بل تتجّه إلى مزيد من الانحدار والانشغال بالقضايا الثانوية أو التافهة.
ما جرى ويجري في الشمال السوري، والمرجّح امتداده نحو الجنوب، يرسم مصير سوريا لأوّل مرّة منذ سنة 1920. ونظراً للارتباط المصيري بين البلدين، فإن إعادة تحديد مستقبل سوريا لا بدّ أن يكون له تأثير كبير على لبنان.
قرار روسيا بدعم الحسم العسكري لمصلحة النظام في بعض المناطق هو قرار استراتيجي، وليس مجرد موقف تكتيكي. فهو لا يهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية والديمغرافية في سوريا وحسب، بل يرمي إلى أبعد من ذلك، إلى التأثير على صراعات إقليمية ودولية متصلة بالمنطقة، وغير المنطقة.
ضمن جهودها لاستعادة موقعها في الصراع الدولي، تسعى روسيا إلى توسيع وتثبيت منطقة سورية قابلة للإدارة والحياة، تكون تحت حمايتها ونفوذها، تمتد من حلب إلى درعا وتتصل بشاطئ المتوسط. هذا التوجّه، بالمنظور التاريخي، هو «استرداد» لحقوق روسيّة مشروعة في المنطقة، سلبها إياها الغرب في مصر والعراق وليبيا، من دون أيّ اتفاق أو تعويض أو مقايضة.
استعداداً لهذا التطوّر، وقبل أن تعزز روسيا وجودها باتفاقية للتعاون العسكري مع سوريا في أيلول الماضي، استحوذت الشركات الروسية أواخر سنة 2013 على الحق الحصري بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية. ويكتسب هذا الجانب أهمّية كبرى مع تحوّل شرقي المتوسط، بين جنوب تركيا وشمال مصر، إلى خزان ضخم للغاز يمتد على مساحة تقارب 90 ألف متر مربّع. ويشكل هذا الاتفاق استباقاً للمحاولات الغربية الرامية إلى التضييق على صادرات الغاز الروسية التي تمرّ بتركيا.
من جهة أخرى، إذ يكرّر الرئيس فلاديمير بوتين، في ضرب «المعارضات» السورية، بعض الأساليب بالغة القسوة التي استعملها في قمع «الحرب الثانية» في الشيشان، فهو يتوسّل موجات المهجّرين المتوالية لتحقيق أهداف سياسية تكتيكية. إنه يحرج خصمه التركي ويضعه بمواجهة مع أوروبا، لتصفية حسابات له مع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ومع القارّة العجوز، التي فرضت عليه عقوبات مؤلمة منذ تدخله في أوكرانيا واحتلاله شبه جزيرة القرم.
فإمّا أن يبلع الرئيس التركي «موسى» المهجّرين الجدد ويبقيهم لديه، مع ما يترتب على ذلك من أعباء على تركيا، أو أن يصدّرهم إلى أوروبا، فتتوتر علاقته بها وتشتعل فيها اعتراضات اليمين الأوروبي المتطرف، الذي يتلاقى مع بوتين في العداء لمنظومة الاتحاد الأوروبي. ولا يمانع بوتين في أن تدفع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ثمناً سياسياً لقاء تفاقم مشكلة المهجّرين، فهو لا ينسى أنها تقود معركة العقوبات الغربية على بلاده، وتطرح عليه شروطاً يعتبرها متعجرفة لرفع تلك العقوبات.
التطورات الجارية في سوريا، إذن، هي تطوّرات جدّية وعميقة وتاريخية، ولا شيء يثني الممسكين بها والموجّهين لها عن الاستمرار في دفعها حتى تحقيق الأهداف المرسومة… ما دامت الولايات المتحدة تغض الطرف عن تطوّر الأحداث، ضعفاً أو تهاوناً، أو تنفيذاً لصفقة دُبّرت في ليل ونُفذت في نهار.
ومن منظور لبناني فإن التطوّر السوري، إذا اكتمل، قد يفتح أمام لبنان طريق المخاطر.
فابريس بالانش، وهو أكاديمي فرنسي متخصّص في شؤون سوريا، وأستاذ مشارك ومدير الأبحاث في «جامعة ليون 2»، أمضى خلال تحضير أطروحته عن مناطق العلويين ست سنوات في سوريا، بينها أربع سنوات في اللاذقية. وقد نشر مقالة مفصلة ومكثفة عن أحداث حلب على موقع «معهد واشنطن» بعنوان: «حلب: مركز رقعة الشطرنج السورية»، حيث حدّد بدقة أهداف عمليات الجيش السوري بدعم من الطيران الروسي.
اعتبر بالانش أن القوى الإقليمية المواجهة لروسيا وإيران قد تلجأ إلى خيارات أخرى لإحباط المخطط الجاري تنفيذه، وبينها، على حدّ قوله، فتح جبهة جديدة في شمال لبنان تنخرط فيها الجماعات السلفية المحلية وآلاف اللاجئين السوريين المحبطين في القتال. ومن شأن هذه الخطوة، برأيه، تهديد الساحل السوري والطريق الرئيسي إلى دمشق. ذلك يعني فقط توسيع القتال وإقحام لبنان في أتونه.
بالمقابل، قد يقود اكتمال العملية العسكرية في حلب، وفي محافظات أخرى، إلى تجيير نتائجها، كالعادة، لحسابات سياسية وطائفية لبنانية، فتدور رحى المعارك في محافظات سوريا وتظهر حسابات افتراضية للربح والخسارة في لبنان.
ولا يساعد ذلك إلا في إذكاء الأحقاد وزيادة التوتر ورفع منسوب الصراع الطائفي والمذهبي، ومزيد من الضعف لاقتصاد بات على شفير الهاوية.