ثمانية وثلاثون عاماً على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانيّة في مثل هذا اليوم، يبقى الثالث عشر من نيسان العام 1975 يُشّكل نُدبة تشوّه الوجه اللبناني كعلامة فارقة، نُدبة غائرة على الوجه وفي الضمير، تاريخ هستيريا موتٍ جماعي صنعه كثيرٌ من اللبنانيين بأيْديهم، وللأسف يحمل هذا الوطن إرهاصات حروبه الأهليّة في كلّ مرّة يرهن فريق منه لبنان لحساب أجندات المنطقة، اليوم نعيش زمن ارتهان فريق للأجندة الإيرانيّة في خارطة لإمبراطوريّة «فارس» الجديدة التي تمسك بأنيابه كأفعى شريرة بعنق بالمنطقة!
الحمد لله لم يعد هناك هنري كيسنجر على رأس الخارجية الأميركية، مات مشروع كيسنجر، وهو نفسه ما يزال حيّاً يشهد الدّمار المتتالي على دول المنطقة، والتوطين نفسه لا يزال «بعبع» لبنان لأنّنا لم يتح لنا الخروج من الطائفيّة والمذهبيّة، ولا أظنّ الأمر متاح على الأقل في بحر النصف قرن المقبل، لم نستطع أن نكون دولة مدنيّة حقيقيّة القيمة فيها للمواطن بصفته مواطناً لا عدداً في طائفة، وطالما أنّ عقليّة العدّ متحكّمة بالجميع فلن نستطيع العبور إلى الدّولة القويّة ونسقط مشروع الدويلة ما دمنا نستقوي على بعضنا بالآخر حيناً وبأعداد طوائفنا أحيان أخرى!
ثمّة أجيال دفعت عمرها منذ 13 نيسان 1975، جيل آبائنا وجيلنا وجيل أبنائنا وأولادهم ولم يستقرّ الحال بعد في لبنان، أحياناً أظنّ أنّهم توصّلوا إلى قرار إنهاء الحرب في لبنان لنقلها إلى منطقة الخليج والمنطقة دولة تلو الأخرى، لم تكن الحرب قد انتهت في لبنان حتى كانت عاصفة الصحراء قد انطلقت، ومنذ نهاية الأسبوع الماضي والمنطقة على شفير حرب وحده الله يعلم كيف سينزلق أوارها في المنطقة، وما إذا كان لبنان سيكون بمنأى عنها.
في كلّ مرة يعود فيها تاريخ اندلاع الحرب الأهلية علينا أن نعترف لمسيحيي لبنان بفضلهم في إنقاذ لبنان من تكريسه وطناً بديلاً، وعلينا أن نعترف أنّ الموالين للمنظمات الفلسطينية كانوا متآمرين على لبنان، وبالتأكيد ليس دفاعاً عن القضية الفلسطينية ولا كلّ العناوين الطنّانة والرنّانة آنذاك، من المؤسف أنّ لكلّ زمن شعاراته وما زال الكلّ يذهب بلبنان وشعبه إلى هاويات المنطقة بحسب مصالحهم الشخصية والطائفيّة والمذهبيّة كأن هذا التاريخ لا بدّ أن يعيد نفسه دائماً!
ذاك الأحد ما زال راسخاً بقلقه وتوتره وخوفه في ذاكرتي، كنا نستشعر الحرب قبل أن نعي ما هي الحرب، كان العام 1973 حسماً في إفهامنا أن الحرب شيء مهول غول مخيف، كان السلاح ظاهراً متفشياً والرصاص يلعلع من دون مناسبة كانت منطقتنا قد أضحت مربعاً أمنياً للميليشيات الفلسطينيّة!
كنّا أطفالاً وكان أطفال العائلات الفلسطينية لا يتورّعون عن قطع زواريب أحيائنا الضيقة ومضايقة أبنائنا مهددين «وَلَه.. هادا مو طريقك»، كان الليل حافلاً بحواجز تطلق الرصاص على السيارات العابرة ليلاً إن لم تنتبه لفتى فلسطيني يظن أنه يحارب إسرائيل في إطلاقه النار على سائق لم يتنبّه لوجود الحاجز، زرع الخوف الأحياء، حتى سمعنا صوت القذيفة الأولى تعبر السماء ليلاً، وشاهدنا صباحاً نعوش النساء والأطفال تشيّع صباحاً بعد سقوط قذيفة على فرنٍ ازدحمت على بابه الأكف تنتظر أرغفة الخبز..
رفرفت ملائكة الموت طويلاً في فضاء لبنان، لم أكن أظن أن هذه القشعريرة وهذا الانقباض والضيق في قلبي الصغير هي من رهبتها، بعد ثلاثة وأربعين عاماً ملائكة الموت تحشد أجنحتها فوق المنطقة عن بكرة أبيها.