حين بدأت حرب 1967، كان المناخ الإسلاميّ و «الوطنيّ» واليساريّ في لبنان يلحّ على الانخراط في المعركة. «النظام العميل» بدا، في نظره، ممتنعاً عن قطف ثمار النصر القوميّ المؤكّد. إذاعة «صوت العرب» القاهريّة تُسقط الطائرات الإسرائيليّة بالعشرات، فما الذي يردعنا عن المشاركة في غنمٍ مضمون؟
بالطبع، كانت هناك مشاعر الذين يرون أنّ الوطن الصغير وطن ناقص، وأنّ الملحميّة والدم شرط لجعله وطناً. لكنْ كانت هناك أيضاً حسابات: فرئاسة شارل حلو، التي بدأت تتحوّل عن التبعيّة الشهابيّة لمصر الناصريّة، لم تكن محطّ رضا. فحين شرعت «صوت العرب» تُسقط الطائرات الإسرائيليّة، قويت حجّة المستائين: كيف ترفضون أن ترفلوا بهذا النعيم القوميّ وأنتم ترونه بأمّ العين؟
يوم واحد كان كافياً لظهور الحقيقة: إنّنا نُهزم. بعد أربعة أيّام استقال عبدالناصر. الحكم اللبنانيّ «الانعزاليّ»، إذاً، نجّانا من هزيمة محقّقة. نجّانا من خسارة أرض تُضمّ إلى المساحات الهائلة التي احتُلّت في الضفّة وغزّة وسيناء والجولان.
الملك حسين فكّر على نحو آخر: مشاركة الأردن في الحرب، انتصاراً أم هزيمة، تجنّب البلد حرباً أهليّة. المشاركة حصلت. الضفّة احتُلّت. الحرب الأهليّة وقعت بعد ثلاث سنوات.
لم يقل أحد إنّ الخيار الذي اختاره «انعزاليّو» لبنان كان مصيباً وحكيماً. كان هناك حرج في الأمر: هل يُعقل أن يصيب «الانعزاليّون»؟ هل يُعقل أن يأتي الصواب، أيّ صواب، من بلد صغير لا يحكمه العسكر الثوريّ، فيما يحتلّ المسيحيّون فيه الموقع الراجح؟ هل يُعقل أن تخطئ الصناعة الثقيلة والجيش الجرّار والقائد الملهم وأجهزة الأمن والصحافة المؤمّمة والأحزاب الممنوعة، وأن يصيب قطاع الخدمات والنظام البرلمانيّ والساسة العاديّون وحريّات الصحافة والأحزاب؟
الإقرار كان يعادل اهتزازاً في مرتكزات الوعي النضاليّ القائم. إنّه يشبه تجرّع السمّ.
«محو العار» بات يعني في مصر وسوريّة تحرير الأرض التي احتُلّت. في لبنان، صار «محو العار» يعني بذل الجهود لكي تُحتلّ الأرض.
السنوات اللاحقة بدت، في هذا المضمار، دعوةً محمومة كي نعوّض ما فاتنا، أي كي نخسر أرضاً فشلنا في خسارتها. ردعتنا «المارونيّة السياسيّة» اللعينة عن ذلك. بالسلاح حصل نقد ذاتيّ لهذا المسار: جُرّب الأمر مع المقاومة الفلسطينيّة التي عوّضت بلبنان ما خسرته في الأردن عام 1970. يومذاك كان للنظام السوريّ والنظام العراقيّ فصائلهما في هذه المقاومة. فصائل أخرى بدت معجبة بأنظمة ليس بينها نظام ديموقراطيّ واحد: الجبهة الشعبيّة ببلغاريا، الجبهة الديموقراطيّة، وكذلك الشعبيّة، باليمن الجنوبيّ، «يسار فتح» بألبانيا…
لم نوفّق كثيراً في 1978. كان حظّنا سيّئاً. الاجتياح عامذاك كان صغيراً. حالفنا التوفيق مع الاجتياح الأكبر في 1982: عاصمتنا باتت أوّل عاصمة عربيّة تُحتلّ. «السفير» صدرت بمانشيت شهير: «بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء». احتُلّت لنا أيضاً أراضٍ كثيرة أخرى في الجنوب والجنوب الشرقيّ. صار في وسعنا أن نباهي الأمم. صرنا مقاومين.
الفصل التالي في هذه الرواية البائسة كتبه «حزب الله» بمعونة الوصاية السوريّة. ممنوع أن تكون هناك سياسة خارجيّة للبنان تستعيد الأرض سلماً. إنّها وحدة المسارين، أي الوحدة مع طرف لا يريد أن يسترجع أرضه كي لا يخسر نظامه. قضيّتنا، إذاً، في أيدٍ أمينة: حافظ الأسد لا يريد أن يستردّ أرضه هو، فكيف نخشى أن تعود أرضنا نحن؟ أيّ ضمانة أكبر من هذه بأنّنا سنبقى محتلّين، وبالتالي مقاومين للاحتلال؟.
الإسرائيليّون انسحبوا من طرف واحد في 2000. سمّينا ذلك «مؤامرة الانسحاب». اخترعنا مزارع شبعا. لن يُفلتوا منّا. سنمضي في المقاومة. كلّ شهيد يسقط يُصرف نفوذاً أكبر لإيران في بلادنا. كلّ بطولة تؤدّى تغدو رقعة أكبر يحتلّها الوعي الدينيّ والطائفيّ والغيبيّ. كلّ مقاومة نُبديها تُترجم فوراً أجهزة أمن سوريّة ولبنانيّة أكثر.
برأسمال المقاومة هذا غزونا سوريّة حين أرادت أن تتخلّص من جزّارها الذي هو ضامن احتلالنا ومقاومتنا. وضعنا فلسطين وقتال إسرائيل على شفاهنا وملأنا قلوبنا بالوحل.
إنّنا مصابون بالمقاومة منذ 5 حزيران 1967. فرصة كهذه لن نفوّتها بعد الآن. فرصة كهذه نخترعها إن عزّ المخترع. نحن أحرار. أنتم الذين تقولون العكس أذلاّء مشبوهون.