يتفاعل لبنان “حربيّاً” مع “السلم” السوري. كلتا الكلمتين يجب وضعهما بين مزدوجين ولكنهما حقيقيَّتان في سياقيهما السياسيّين الراهنين.
هذا يعني قياسا بالأزمة الجديدة في العلاقات الخليجية مع لبنان أن بلدنا الصغير لن يتمكّن بسهولة من أن يتابع “وظيفته” المستجدة بعد انفجار الحرب في سوريا كـ”سويسرا حروب المنطقة”. لا أقول سيفشل لأن الموقف الغربي لم يتضح بعد، ولكن صار الحفاظ على “الوظيفة” أصعب.
الاعتراض الخليجي المستجد الجاد على “الوظيفة” اللبنانية في جزئها الإيراني بل في أجزائها الإيرانية المتنامية، هذا الاعتراض الذي نشهده مؤخرا على مستويات غير مسبوقة، هو أحد المظاهر الفرعية لاحتدام المفاوضات الدولية خلال، وخصوصا بعد، الاتفاق الإيراني الأميركي النووي، احتدام التفاوض لا احتدام الصراع إذا جاز التمييز السياسي. لأنه على المستوى “التقني” والإنساني يمكن للتفاوض، أي تفاوض في الأزمات الكبيرة، أن يحمل معه تصعيدا للمعارك.
الفارق غير المنظور الآن هو فارق البيئة، بيئة الحرب في سوريا تحديدا من بيئة سياسية حربية إلى بيئة سياسية سلمية.
الخليجيّون ببساطة، إذا جاز التبسيط، يعيدون النظر في ” الوظيفة” اللبنانية من ضمن “استراتيجيَّتِهم” في طرح كل ملفات الصراع العالقة والمحتدمة في المنطقة بعد الاتفاق النووي الإيراني الأميركي.
كان لبنان صراعا عالقا بين الخليج وإيران فيما سوريا واليمن صراعان محتدمان.
دعونا لا ننس إذن أن الأزمة اللبنانية المستجدة، وهي للتكرار فرعية لفريقي الصراع الإقليميّين، تأتي في بيئة دولية جديدة خصوصا حول الوضع السوري.
ودعونا أيضا لا نذهب بعيدا في كوابيسنا اللبنانية الأخيرة من حيث التذكير بالمعادلة القدَرية، وربما أدبيا جاز القول اللعنة القدَريّة، لتاريخ العلاقة بين الوضعين اللبناني والسوري منذ خمسة عقود وهي أن سوريا ذاهبة للاستقرار تعني لبنان ذاهبا للتوتر أو الحرب. والعكس بالتالي. بيئة حربية في سوريا (والمنطقة) تعني بيئة سلمية في لبنان.
هذا الكابوس “الاستراتيجي” مبكر. لكن الأساس أنه علينا أن ننتبه إلى ما يمكن أن تحمله “البيئة السلمية” الجديدة للصراع من “بيئة حربية” في لبنان.
بيئة سلمية للحرب مقابل بيئة حربية للتفاوض. نحن منذ الاتفاق النووي في هذا السياق.
ليس أكثر من مجلس التعاون الخليجي حساسية للتحولات الاقتصادية الاستراتيجية. فهذه الكتلة العربية والشرق أوسطية والمسلمة الأهم في النظام الدولي للمنطقة في القرن العشرين، هي عصبه الاقتصادي، ولذلك هي أجرت بقيادة المملكة العربية السعودية تغييراتٍ عميقة في سلوكياتها الأمنية والسياسية في مواجهة تفاقم التهديد الإيراني لمواقعها. ولهذا يبدو الجيل الجديد الحاكم في السعودية اليوم، جيل الأحفاد، أقرب إلى الجدِّ المؤسِّس عبد العزيز منه إلى جيل أبناء عبد العزيز.
صارع الأبناءُ سياسيا منذ الخمسينات تياراتٍ عديدةً في المنطقة لكنْ بشكل غير مباشر للدفاع عن مُلْكٍ أسسه عبد العزيز بالقتال المباشر. الأحفاد يغادرون اليوم زمن ” الرخاء” القديم وينزلون إلى الساحات قتاليا وبشكل متزايد.
الطبقة السياسية اللبنانية التي كانت تجد دعمها في السعودية وأحيانا تُنْتَج في السعودية منذ ثلاثينات القرن العشرين، أي طويلا قبل إنتاج الظاهرة الحريرية اللبنانية التي تكاد تكون حياتُها متلازمةً مع إنتاج إيراني للمرة الأولى منذ قرون لظاهرة سياسية وأمنية لبنانية وعربية هي “حزب الله”. كلمة “قرون” هنا ليست مبالغة، لأنها أحد تعبيرات دخول إيران إلى العالم العربي للمرة الأولى منذ القرن السادس عشر، بعدما وضعها الحاجزُ العثماني سياسيا وعسكريا خارجها. إلى أن خرج العثمانيون عام 1919 ولم يدخل الإيرانيون. حتى جاء عام 1979.
“عَقْلُ” كتابتي اليوم في لبنان مهما ابتعدتُ. لهذا واستطرادا لما سبق ربما على النخبة اللبنانية، أيا تكن تمايزاتها الطائفية، الانتباه إلى أنه سبق للبنان أن خسر فرصة كان يفترض، منطقيا بسبب تكوينه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الغني، أن يكون مستفيدا كبيرا منها. إنها ما أسمّيه مرحلة “ترويض مصر” في السبعينات من القرن العشرين، المرحلة التي انتهت بحل سلمي مع إسرائيل و”انتهت” بحرب طويلة أهلية وخارجية في لبنان دمّرت إمكانية استفادته من صعود البترو دولار وثرواته المدهشة!
اليوم بدأ “ترويض إيران” في النظام الدولي…
فهل من خطرٍ أن يخسر لبنان فرصة هائلة ليستفيد منها بالاستثمارات والخدمات بحكم إمكانياته؟. (للتذكير أن أرقام الودائع في المصارف اللبنانية هي في ازدياد متواصل في الأعوام الأخيرة وفق إحصاءات جمعية المصارف وهي أرقام بلغت المائة واثنين وخمسين مليار دولار نهاية العام 2015 اي ما يوازي ثلاثة اضعاف الناتج المحلي حسب الخبير الاقتصادي الدكتور توفيق كسبار).
ليس بالضرورة أن يعيد التاريخ نفسه ولن يعيد نفسه حرفيا بالتأكيد. ولربما هذه المرة، إذا أظهرت النخب اللبنانية، كل النخب اللبنانية، عدم رخاوة بل عدم ميوعة حيال “شهوات” الحرب الأهلية، ربما أمكننا أن لا نجعل عرس احتضان إيران للغرب، واحتضان الغرب لإيران، على حسابنا…
ولربما أيضاً غيّرنا للمرة الأولى منذ قيام الكيانَيْن السوري واللبناني هذه اللعنة القدرية لعلاقتهما ببعض. فيأتي عام 2016 الذي ينظِّم فيه بعد أشهر قليلة حزبُ الكتائب و”رئيس مركز الأبحاث” فيه الشيخ أمين الجميل وبالتعاون مع مديره الزميل سام منسى مؤتمرا دوليا في بكفيا تحت عنوان : “مائة عام على سايكس بيكو”… يأتي 2016 ببدايات تغيير إيجابي لا كارثي على لبنان إلى أن يصل عام 2020 الذي سيشهد الحدث الاحتفالي والبحثي الأهم وهو تنظيم البطريرك الماروني بشارة الراعي وبالتعاون مع لجنة منها مستشاره الدكتور روجيه ديب لمؤتمر “مائة عام على تأسيس لبنان الكبير”.
مَنْ أكثر ملاءمةً ودلالةً رمزية من بكركي الأم، حيث تكوّن “الجنين” الذي سيولد في فرساي من أبٍ فرنسي… مَنْ أكثر ملاءمةً منها لتنظيم بل قيادة هكذا مناسبة؟