مع نجاح الجيش النظامي السوري يدعمه حلفاؤه في بسط سلطته على مدينة حلب بكاملها، تدخل سوريا في مرحلة جديدة مختلفة كثيراً عن المراحل التي سبقت منذ اندلاع النزاع عام 2011.
لذلك شرعت القوى الإقليمية والدولية في إجراء التقويمات المتوقّعة بعد حلب والاتجاهات التي ستسلكها المنطقة خصوصاً أنها تترافق مع تسلم دونالد ترامب سلطاته الدستورية، وهو الذي لا يزال يمتاز بسياسة غامضة أو على الأقلّ غير واضحة بما فيه الكفاية إزاء التحدّيات المصيرية التي تهزّ الشرق الاوسط.
الرئيس السوري بشار الأسد قال ما معناه إنّ طيّ صفحة حلب لا تعني نهاية الحرب ولو أنها تشكل خطوة كبيرة لإنهائها. وكلام الأسد هذا وافقته عليه العواصم الغربية التي تحضر ملفاتها لترتيب تسوية سياسية في الشرق الاوسط، ولا سيما منها واشنطن. ووسائل الإعلام الغربية التي ركّزت على موقف الأسد حول ما بعد حلب تحدّثت عن تخلّي تركيا والسعودية عن معارضي الأسد في حلب ما أدّى الى هذا الانهيار السريع.
تركيا أنجزت تسوية مع روسيا قامت على مبادَلة شرق حلب بالمنطقة السورية القريبة من حدودها. أما السعودية فرزحت تحت وطأة الحرب الدائرة في اليمن حيث أعلنت واشنطن وقف بيع أسلحتها للسعودية ولكن مع ضمان أمن حدود المملكة.
وما من شك في أنّ القرار الأميركي هو للضغط على الرياض لإنهاء النزاع العسكري في اليمن وللحدّ من الدور السعودي الداعم في سوريا والعراق. وهنالك مَن يقول إنّ واشنطن تريد دوراً للسعودية شرق إيران و تحديداً في أفغانستان لدعم مناهضي إيران.
وكان لافتاً ما عنونته صحيفة «الاندبندنت» البريطانية الرصينة حيث أوردت أنّ «سقوط حلب يعني موت الثورة».
المراقبون يتحدثون عن إدلب وجهة تالية للجيش السوري، وآخرون أشاروا الى حجم الغنائم العسكرية التي استحوذ عليها تنظيم «داعش» من تدمر ما سيعوّض عليه ولو جزئياً إقفال الممرات التي كانت مفتوحة مع تركيا.
كلّ ذلك صحيح، لكنّ الأكثر صحّة هو المشروع الذي سيحمله فريق ترامب، والقاضي بإنجاز تسوية سياسية في سوريا، والأهمّ تسوية إسرائيلية ـ فلسطينية تليها تسوية إسرائيلية ـ عربية.
ولم يكن مفاجِئاً تراجع ترامب عمّا وعد به خلال حملته الانتخابية بنقل السفارة الأميركية الى القدس. قبله فعل الشيء نفسه كلّ مَن وصل الى البيت الأبيض لكنّ الفارق أنّ ترامب يستعدّ لفرض تسوية تقوم على مبدأ «الدولتين» وهو المتحرّر من أيّ التزامات مسبَقة للوبي اليهودي.
وبعد فترة طويلة من التردّد، اختار ترامب ريكس تيلرسون وزيراً للخارجية وهو رجل أعمال يُضاف الى لائحة طويلة من رجال الأعمال المرشحين لمناصب عليا في إدارة ترامب.
لكن تيلرسون صاحب الشخصية المتعالية يَحظى بصفةٍ أهمّ وهي علاقة الثقة التي تجمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما سيُسهّل العمل معاً على ملف الشرق الأوسط حيث الحضور الروسي الكبير والفاعل.
وقد لا تكون محض مصادفة أن يأتي تعيين تيلرسون بعد الصفعة القاسية التي تلقّتها موسكو في تدمر، حيث باشرت بناءَ قاعدة عسكرية جوّية لها وقيل إنّ بصمات المخابرات المركزية الأميركية لم تكن مخفية بحجّة استعادة شيء من التوازن الميداني بعد سقوط حلب.
لكنّ البعض لا يستبعد وجودَ رابط أيضاً بين النزاع الدائر داخل واشنطن مع الإدارة الجديدة والدور الروسي المتعاظم. ويتردّد مثلاً أنّ مجلس الشيوخ يستعدّ لجلسات قاسية لدى مناقشة تولّي تيلرسون مهماته الجديدة خصوصاً في الجانب المتعلّق بعلاقته مع بوتين.
لكنّ مشروعَ تعاون ترامب مع بوتين والذي لديه جوانب كثيرة، إنما يحمل أيضاً هدف الدفع بحلّ الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيّين بالتزامن مع إرساء ثوابت الحلّ في سوريا.
ولأنّ ترامب بمثابة «الصاروخ غير الموجَّه» كما يصفه الإسرائيليون، باشرت إسرائيل خطةَ دفع العالم الإسلامي الى الاصطدام به.
في الصحف الأميركية التي تتأثر عادة باللوبي اليهودي، عناوين مثيرة مثل «ترامب يحشد لحرب صليبية ضد الإسلام»، و»حرب ترامب المقبلة على الإسلام»، و«ترامب لا يستطيع هزيمة «داعش» كما يظن»، الخ…
لكنّ الحدث الأهم كان مع انتحاري كاتدرائية الأقباط وهو الاعتداء الأوّل من نوعه على الأقباط منذ العام 2010 والرابع خلال أسابيع معدودة داخل مصر.
وخطورة الحادث أنه أظهر تعاوناً وثيقاً بين «الاخوان المسلمين» و«داعش»، والأهمّ وجود خيوط حول تورّط فلسطينيّين في غزة، ما يعني أنّ بصمات الاستخبارات الاسرائيلية لا تبدو بعيدة.
وهو ما يُفسّر التوقيت كرسالة موجّهة الى الإدارة الأميركية المقبلة التي تراهن على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. والرسالة جاءت عبر الأقباط الداعمين للسيسي الذي يعاني من أزمة اقتصادية صعبة أثّرت على شعبيته، وخصوصاً أنّ لمصر دوراً منتظَراً في سوريا ومع الفلسطينيّين لدى طرح مشاريع التسوية.
ومردّ القلق أيضاً إلى أنّ «داعش» الذي يَخسر أراضيه في سوريا ولبنان سيُعيد تنشيط عمله الإرهابي من خلال خلايا تحت الأرض، أي ازدياد الفوضى حيث هو قادر على الوصول.
واستنتاجاً على ذلك، فإنّ الساحة اللبنانية تشكل أيضاً عاملَ إغراءٍ لعملياته الإرهابية وتشجيعٍ إسرائيلي.
ولبنان الذي يطوي صفحة الحكومة بعدما جرت دوزنة الأحجام وإعادة مختلف القوى الى الواقعية في بداية عهد الرئيس ميشال عون، لا يبدو بعيداً من السعي الى نشر الفوضى عبر عمليات إرهابية اعتقاداً أنه يشكّل صندوقة بريد موجعة لواشنطن تماماً كما مصر وربما أكثر.